﴿ رِزْقَهُ ﴾ أي ضيق عليه وجعله بمقدار بلغته، ﴿ فَقَدَرَ ﴾ شامي ويزيد ﴿ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَـانَنِ ﴾ [الفجر : ١٦] أي الواجب لمن ربه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة ولا تهمه العاجلة، وهو قد عكس فإنه إذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر، قال : ربي أكرمني أي فضلني بما أعطاني فيرى الإكرام في كثرة الحظ من الدنيا، وإذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر، قال : ربي أهانني فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا لأنه لا تهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها، فرد عليه زعمه بقوله
٥٢٠
﴿ كَلا ﴾ أي ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلته بل الإكرام في توفيق الطاعة والإهانة في الخذلان، وقوله تعالى :﴿ فَيَقُولُ ﴾ خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في " أما " من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء، وكذا ﴿ فَيَقُولُ ﴾ الثاني خبر لمبتدأ تقديره : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه.
وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء لأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع، ونحوه قوله تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء : ٣٥] (الأنبياء : ٥٣).
وإنما أنكر قوله ﴿ رَبِّى أَكْرَمَنِ ﴾ [الفجر : ١٥] مع أنه أثبته بقوله ﴿ فَأَكْرَمَهُ ﴾ لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته وهو قصده إن الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له لاستحقاقه كقوله ﴿ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى ﴾ [القصص : ٧٨] (القصص : ٨٧) وإنما أعطاه الله تعالى ابتلاء من غير اسحقاق منه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٠
﴿ الْمِسْكِينِ ﴾ أي بل هناك شر من هذا القول وهو أن الله يكرمهم بالغنى فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة وحض أهله على طعام المسكين ﴿ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ ﴾ [الفجر : ١٩] أي الميراث ﴿ أَكْلا لَّمًّا ﴾ [الفجر : ١٩] ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام، وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ ﴾ [الفجر : ٢٠] يقال حبه وأحبه بمعنى ﴿ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر : ٢٠] كثيراً شديداً مع الحرص ومنع الحقوق، ﴿ رَبِّى ﴾ حجازي وأبو عمرو ﴿ وَلا ﴾ ﴿ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ ﴾ [محمد : ١٢] ﴿ وَّيُحِبُّونَ ﴾ بصري ﴿ كَلا ﴾ ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم.
ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة فقال ﴿ إِذَا دُكَّتِ الارْضُ ﴾ [الفجر : ٢١] إذا زلزلت ﴿ دَكًّا دَكًّا ﴾ [الفجر : ٢١] دكاً بعد دك أي كرر عليها الدك حتى عادت هباء منبثاً.
٥٢١
﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ ﴾ [الفجر : ٢٢] تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه، فإن واحداً من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه، وعن ابن عباس : أمره وقضاؤه ﴿ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر : ٢٢] أي ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس ﴿ وَجِا ى ءَ يَوْمَـاـاِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ [الفجر : ٢٣] قيل : إنها برزت لأهلها كقوله :﴿ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴾ [الشعراء : ٩١] (الشعراء : ١٩).
وقيل : هو مجرى على حقيقته ففي الحديث " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " ﴿ يَوْمَـاـاِذٍ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ ﴾ [الفجر : ٢٣] أي يتعظ ﴿ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ [الفجر : ٢٣] ومن أين له منفعة الذكرى؟ ﴿ يَقُولُ يَـالَيْتَنِ قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى ﴾ هذه وهي حياة الآخرة أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفانية لحياتي الباقية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢٠