أنذر بهجومه قومه بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر ﴿ يُبْصِرُونَ ﴾ وإنما ثنى ليكون تسلية على تسلية وتأكيداً لوقوع الميعاد إلى تأكيد، وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة.
وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا وبالآخرة عذاب الآخرة.
﴿ سُبْحَـانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ﴾ [الصافات : ١٨٠] أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق، ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد إلا وهو ربها ومالكها كقوله، ﴿ بِهَا مَن تَشَآءُ ﴾ (آل عمران : ٦٢) ﴿ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنعام : ١٠٠] من الولد والصاحبة والشريك ﴿ وَسَلَـامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات : ١٨١] عم الرسل بالسلام بعدما خص البعض في السورة لأن في تخصيص كل بالذكر تطويلاً ﴿ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ ﴾ [الأنعام : ٤٥] على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء.
اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوه إليه مما هو منزه عنه وما عاناه المرسلون من جهتهم وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون والتسليم على المرسلين، والحمد لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب.
والمراد تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلّوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتاب الكريم ومودعات قرآنه المجيد.
وعن علي رضي الله عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه ﴿ سُبْحَـانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَـامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ ﴾.
٥١
سورة ص
مكية وهي ثمان وثمانون آية كوفي وتسع بصري وست مدني
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ ص ﴾ ذكر هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه كأنه قال ﴿ وَالْقُرْءَانِ ذِى ﴾ [ص : ١] أي ذي الشرف إنه لكلام معجز، ويجوز أن يكون ﴿ ﴾ خبر مبتدأ محذوف على أنه اسم للسورة كأنه قال : هذه ص أي هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر كما تقول : هذا حاتم والله، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله، وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمت بـجزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٢
﴿ وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ ﴾ [ص : ١] إنه لمعجز.
ثم قال ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ ﴾ [ص : ٢] تكبر عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق ﴿ وَشِقَاقٍ ﴾ خلاف لله ولرسوله.
والتنكير في ﴿ عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ص : ٢] للدلالة على شهدتما وتفاقمهما.
وقريء ﴿ فِى ﴾ أي في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق ﴿ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ [طه : ١٢٨] وعيد لذوي العزة والشقاق ﴿ مِن قَبْلِهِم ﴾ [الدخان : ٣٧] من قبل قومك ﴿ مِّن قَرْنٍ ﴾ [ص : ٣] من أمة ﴿ فَنَادَوا ﴾ فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب ﴿ وَّلاتَ ﴾ هي " لا " المشبهة بـ " ليس " زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على " رب " و " ثم " للتوكيد، وتغير بذلك حكمها
٥٢
حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضييها إما الاسم أو الخبر وامتنع بروزهما جميعاً وهذا مذهب الخليل وسيبويه، وعند الأخفش أنها " لا " النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان.
وقوله ﴿ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ [ص : ٣] منجى منصوب بها كأنك قلت : ولا حين مناص لهم.
وعندهما أن النصب على تقدير ولات الحين.
حين مناص أي وليس الحين حين مناص.
﴿ وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم ﴾ [ص : ٤] من أن جاءهم ﴿ مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ق : ٢] رسول من أنفسهم ينذرهم يعني استبعدوا أن يكون النبي من البشر ﴿ عُجَابٌ ﴾ ولم يقل " وقالوا " إظهاراً للغضب عليهم ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغي إذ لا كفر أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله كاذباً ساحراً ويتعجبوا من التوحيد وهو الحق الأبلج.