وجواب القسم ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ ﴾ [التين : ٤] وهو جنس ﴿ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين : ٤] في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ ﴾ [التين : ٥] أي ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية أن رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً يعني أقبح من قبح صورة وهم أصحاب النار، أو أسفل من أهل الدركات، أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشننّ جلده وكلّ سمعه وبصره، وتغير كل شيء منه، فمشيه دليف، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف ﴿ إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ﴾ [التين : ٦] ودخل الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين اللغتين، والاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منقطع أي ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمي والزمني فلهم ثواب غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة.
والخطاب في ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴾ [التين : ٧] للإنسان على طريقة الالتفات أي فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع والبرهان الساطع بالجزاء؟ والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوى، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق، وأن من قدر على خلق الإنسان وعلى هذا كله لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟ أو لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي فمن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل؟ فـ " ما " بمعنى " من " ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَـاكِمِينَ ﴾ [التين : ٨] وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله وهو من الحكم والقضاء والله أعلم.
٥٣٩
سورة العلق
مكية وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت.والجمهور على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ ﴾ [العلق : ١] محل ﴿ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق : ١] النصب على الحال أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك كأنه قيل : قل باسم الله ثم اقرأ الذي خلق.
ولم يذكر الخلق مفعولاً لأن المعنى الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه، أو تقديره خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من بعض.
وقوله ﴿ خَلَقَ الانسَـانَ ﴾ [الرحمن : ٣] تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه ولأن التنزيل إليه، ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان إلا أنه ذكر مبهماً ثم مفسراً تفخيماً لخلقه ودلالة على عجيب فطرته ﴿ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق : ٢] وإنما جمع ولم يقل من علقة لأن الإنسان في معنى الجمع ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ ﴾ [العلق : ٣] الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم ينعم على عباده النعم ويحلم عنهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال ﴿ الَّذِى عَلَّمَكُمُ ﴾ [طه : ٧١] الكتابة ﴿ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ فدل على كمال كرمه بأنه علم
٥٤٠
عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٤٠