ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريق التخييل فقال :﴿ وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر : ٦٧] والمراد بهذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين
٩٧
إلى جهة حقيقية أو جهة مجاز.
والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك قوله ﴿ جَمِيعًا ﴾، وقوله ﴿ وَالسَّمَـاوَاتُ ﴾ ولأن الموضع موضع تعظيم فهو مقتضٍ للمبالغة، و ﴿ الارْضِ ﴾ مبتدأ و ﴿ قَبْضَتُهُ ﴾ الخبر و ﴿ جَمِيعًا ﴾ منصوب على الحال أي : والأرض إذا كانت مجتمعة قبضته يوم القيامة، والقبضة : المرة من القبضة.
والقبضة : المقدار المقبوض بالكف، ويقال : أعطني قبضة من كذا تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، وكلا المعنين محتمل، والمعنى والأرضون جميعاً قبضته أي ذوات قبضته بقبضهن قبضة واحدة يعني أن الأرضين مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة كما تقول : الجزور أكلة لقمان أي لا تفي إلا بأكلة فذة من أكلاته.
وإذا أريد معنى القبضة فظاهر، لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة.
والمطويات من الطي الذي هو ضد النشر كما قال :﴿ يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ [الأنبياء : ١٠٤] (الأنبياء : ٤٠١).
وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه، وقيل : قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع وبيمينه بقدرته.
وقيل : مطويات بيمينه مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يفنيها ﴿ سُبْحَـانَهُ وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [يونس : ١٨] ما أبعد من هذه قدرته وعظمته وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء.
﴿ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ ﴾ [الزمر : ٦٨] مات ﴿ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ ﴾ [النمل : ٨٧] أي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل : هم حملة العرش أو رضوان والحور العين ومالك والزبانية ﴿ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ﴾ [الزمر : ٦٨] هي في محل الرفع لأن المعنى ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى، وإنما حذفت لدلالة
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٥
﴿ أُخْرَى ﴾ عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان ﴿ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴾ [الزمر : ٦٨] يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب أو ينظرون أمر الله فيهم، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان : الأولى للموت والثانية للبعث، والجمهور على أنها ثلاث : الأولى للفزع، كما قال :﴿ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ ﴾ (النمل : ٧٨)، والثانية للموت والثالثة للإعادة.
٩٨
﴿ وَأَشْرَقَتِ الارْضُ ﴾ [الزمر : ٦٩] أضاءت ﴿ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾ [الزمر : ٦٩] أي بعدله بطريق الاستعارة.
يقال للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك.
كما يقال أظلمت البلاد بجور فلان، وقال عليه الصلاة والسلام :" الظلم ظلمات يوم القيامة ".
وإضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه، وقال الإمام أبو منصور رحمه الله : يجوز أن يخلق الله نوراً فينور به أرض الموقف، وإضافته إليه تعالى للتخصيص كبيت الله وناقة الله ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَـابُ ﴾ [الكهف : ٤٩] أي صحائف اوعمال، ولكنه اكتفى باسم الجنس أو اللوح المحفوظ ﴿ وَجِا ى ءَ بِالنَّبِيِّـانَ ﴾ ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة وما أجابهم قومهم ﴿ وَالشُّهَدَآءِ ﴾ الحفظة.
وقيل : هم الأبرار في كل زمان يشهدون على أهل ذلك الزمان ﴿ وَقُضِىَ بَيْنَهُم ﴾ [الزمر : ٧٥] بين العباد ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ بالعدل ﴿ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة : ٢٨١] ختم الآية بنفي الظلم كما افتتحها بإثبات العدل ﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ﴾ [الزمر : ٧٠] أي جزاءه ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الزمر : ٧٠] من غير كتاب ولا شاهد، وقيل : هذه الآية تفسير قوله ﴿ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة : ٢٨١].
أي ووفيت كل نفس ما عملت من خير وشر لا يزاد في شر ولا ينقص من خير.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٥