فإن ظهرت عليه غلبة أحكام هذا المقام والذي قبله وهو مقام فبي يسمع غير متقيد بشيء منها ولا بمجموعها مع سريان حكم شهوده الإحدى في كل مرتبة ونسبة دون الثبات على أمر بعينه بل ثابتاً في سعته وقبوله كل وصف وحكم عن علم صحيح منه بما اتصف به وما انسلخ عنه في كل وقت وحال دون غفلة وحجاب فهو الكامل في العبودية والخلافة والإحاطة والإطلاق كذا في تفسير الفاتحة للصدر القنوي قدس سره، قال في "التأويلات النجمية" في قوله :﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ رجع إلى الخطاب من الغيبة لأنه ليس بين المملوك ومالكه إلا حجاب ملك نفس المملوك فإذا عبر من حجاب ملك النفس وصل إلى مشاهدة مالك النفس كما قال أبو يزيد في بعض مكاشفاته : إلهي كيف السبيل إليك؟ قال له ربه : دع نفسك وتعال فللنفس أربع صفات : أمارة، ولوامة، وملهمة، ومطمئنة، فأمر العبد المملوك بأن يذكر مالكه بأربع صفات بالصفة الإلهية والربوبية والرحمانية والرحيمية، فيعبر بعد مدح الإلهية وشكر الربوبية وثناء الرحمانية وتمجيد الرحيمية بقوة جذبات هذه الصفات الأربع من حجاب ممالك الصفات الأربع للنفس فيتخلص من ظلمات ليلة رين نفسه بطلوع صبح صادق مالك يوم الدين فيبقى العبد عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء فيرحمه مالكه ويذكره بلسان كرمه على قضية وعده ﴿فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة : ١٥٢) ويناديه ويخاطب نفسه ﴿يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ (الفجر : ٢٧) ثم يجذبه من غيبة نفسه إلى شهود مالكية ربه بجذبة
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٧
﴿ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ﴾ (الفجر : ٢٨) فيشاهد جمال مالكه ويناديه نداء عبد خاضع خاشع ذليل عاجز كما قرأ بعضهم :﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ نصباً على نداء إياك نعبد، واعلم أن النفس دنيوية تعبد هواها الدنيوي لقوله تعالى :﴿أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَه هَوَااهُ﴾ (الجاثية : ٢٣) والقلب أخروي يعبد الجنة لقوله تعالى :﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى﴾ (النازعات : ٤٠ ـ ٤١) والروح قربى يعبد القربة والعندية لقوله تعالى :﴿فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر﴾ (القمر : ٥٥) والسر حضرتي يعبد الحق تبارك لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام :"الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" فلما أنعم الله على عبده بنعمة الصلاة قسمها بينه وبين عبده كما قال تعالى على لسان نبيه عليه السلام :"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" فتقرب العبد بنصفه إلى حضرة كماله بالحمد والثناء والشكر على صفات جماله وجلاله وتقرب الرب على مقتضى كرمه وإنعامه كما قال :"من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" بنصفه إلى خلاص عبده من رق عبودية الأغيار بإخراجه من ظلمات بعضها فوق بعض من هوى الناس ومراد القلب وتعلق الروح بغير الحق إلى نور وحدانيته وشهود فردانيته فأشرقت أرض النفس وسموات القلب وعرش الروح وكرسي السر بنور ربها فآمنوا كلهم أجمعون بالله الذي خلقهم وهو مالكهم وملكهم وكفروا بطواغيتهم التي يعبدونها واستمسكوا بالعروة الوثقى وجعلوا كلهم واحداً وقالوا :﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ كرر إياك للتنصيص على اختصاصه تعالى بالاستعانة أيضاً والاستعانة طلب العون ويعدى بالباء وبنفسه أي : تطلب العون على عبادتك أو على ما لا طاقة لنا به أو على محاربة الشيطان المانع من عبادتك أو في أمورنا بما يصلحنا في دنيانا وديننا والجامع للأقاويل نسألك أن تعيننا على أداء الحق وإقامة الفروض وتحمل المكاره وطلب المصالح وتقديم العبادة على الاستعانة ليوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسلية على طلب الحاجة
١٩
أدعى إلى الإجابة وإياك نعبد لما أورثه العجب أردف إياك نستعين إزالة له وإفناء للنخوة، ففي الجمع بينهما افتخار وافتقار فالافتخار بكونه عابداً والافتقار إلى معونته وتوفيقه وعصمته، وفيه أيضاً تحقيق لمذهب أهل السنة والجماعة ؛ إذ فيه إثبات الفعل من العبد والتوفيق من الله كالخلق ففيه رد الجبرية النافين للفعل من العبد بقوله :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٧


الصفحة التالية
Icon