وهذا في حق الكفار فأما المؤمن فقد استثناه فقال :﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء : ٨٨ ـ ٨٩) أي : خال عن الشرك ﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا﴾ أي : من النفس الأولى المؤمنة ﴿شَفَاعَةٌ﴾ إن شفعت للنفس الثانية الكافرة عند الله لتخليصها من عذابه والشفاعة مصدر الشافع والشفيع وهو طالب قضاء حاجة غيره مأخوذ من الشفع لأنه يشفع نفسه بمن يشفع له في طلب مراده ولا شفاعة في حق الكافر بخلاف المؤمن قال النبي عليه السلام :"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فمن كذب بها لم ينلها والآيات الواردة في نفي الشفاعة خاصة بالكفار ﴿وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا﴾ أي : من المشفوع لها وهي النفس الثانية العاصية ﴿عَدْلٌ﴾ أي : فداء من مال أو رجل مكانها أو توبة تنجو بها من النار.
والعدل بالفتح مثل الشيء من خلاف جنسه وبالكسر مثله من جنسه وسمى به الفدية لأنها تساويه وتماثله وتجري مجراه ﴿وَلا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي : يمنعون من عذاب الله تعالى ومن أيدي المعذبين فلا نافع ولا شافع ولا دافع لهم والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة والتذكير لكونها عبارة عن العباد والأناسي والنصرة ههنا أخص من المعونة لاختصاصها بدفع الضرر.
ثم هذه الآية في غاية البلاغة فإنها جمعت ذكر الوجوه التي بها يتخلص المرء من النكبة التي أصابته في الدنيا وهي أربع ينوب عنه غيره في تحمل ما عليه أو يفتدي بمال فيخلص منها أو يشفع له شافع فيوهب له أو ينصره ناصر فيمنعه فقطعها الله عنهم جميعاً.
وعن عكرمة أنه قال : إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول : يا بني إني أب لك في الدنيا وقد احتجت إلى مثقال حبة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى فيقول له ولده إني أتخوف مثل الذي تخوفت أنت فلا أطيق أن أعطيك شيئاً ثم يتعلق بزوجته فيقول لها فلانة إني زوج لك في الدنيا فتثني عليه خيراً فيقول لها : إني أطلب منك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين فتقول : لا أطيق ذلك إني تخوفت مثل الذي تخوفت منه فيقول الله :﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (فاطر : ١٨) يعني من أثقلته الذنوب لا يحمل أحد من ذنبه شيء، قال السعدي :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٦
برفتند هر كس درود آنجه كشت
نمساند بجز نام نيكو وزشت
بر آن خورد سعدى كه بيخي نشاند
كسى برد خر من كه تخمي فشاند
وفي "التأويلات النجمية" : يا بَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ظاهره عام وباطنه خاص مع قوم منهم قد علم الله فيهم خيراً فأسمعهم خطابه في السر فذكروا نعمته التي أنعم بها عليهم وهي استعداد قبول رشاش نوره يوم خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فآمنوا بمحمد عليه السلام من خاصية قبول ذلك الرشاش كما قال عليه السلام :"فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل" ﴿وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي : بهذه النعمة أي : فضلتكم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بهذه النعمة عند رش النور على من لم يصبهم ذلك النور من العالمين ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ أي : عذاب يوم يخوف الله العام بأفعاله كما قال واتقوا النار ويخوف الخاص بصفاته كقوله :﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ (يس : ٧٦) وقوله :﴿لِّيَسْاَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ﴾ (الأحزاب : ٨) ويخوف خاص الخاص بذاته
١٢٧
ويحذركم الله نفسه وقوله :﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ (آل عمران : ١٠٢).
﴿لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا﴾ (البقرة : ٤٨).
﴿وَالامْرُ يَوْمَااِذٍ﴾ (الانفطار : ١٩) ﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة : ٤٨) في حق نفسها ولا في حق غيرها بغير الإذن كقوله تعالى :﴿مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه إِلا بِإِذْنِهِ﴾ (البقرة : ٢٥٥) ﴿وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ (البقرة : ٤٨) أي : فداء ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلانسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَه سَوْفَ يُرَى﴾ (النجم : ٣٩ ـ ٤٠) والسعي المشكور ما يكون ههنا ﴿وَلا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ لأنهم ما نصروا الحق ههنا وقد قال الله تعالى :﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٦