والجملة حال من ضمير المفعول في نجيناكم والمعنى نجيناكم مسومين منهم أقبح العذاب كقولك : رأيت زيداً يضربه عمرو أي : رأيته حال كونه مضروباً لعمرو وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وخولاً وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يخدمونه ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليهم الجزية.
وقال وهب : كانوا أصنافاً في أعمال فرعون فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها وطائفة ينقلون الحجارة والطين يبنون له القصور وطائفة منهم يضربون اللبن ويطبخون الآجر وطائفة نجارون وحدادون والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة ويؤدونها كل يوم فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهراً والنساء يغزلن الكتان وينسجن وقيل : تفسير قوله يسومونكم سوء العذاب ما بعده وهو قوله تعالى :﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ﴾ كأنه قيل ما حقيقة سوء العذاب الذي يبغونه لنا فأجيب بأنهم يذبحون أبناءكم أي : يقتلونهم والتشديد للتكثير كما يقال فتحت الأبواب.
والمراد من الأبناء هم الذكور خاصة وإن كان الاسم يقع على الذكور والإناث في غير هذا الموضع كالبنين في قوله تعالى : يا بني إسرائيل فإنهم كانوا يذبحون الغلمان لا غير وكذا أريد به الصغار دون الكبار لأنهم كانوا يذبحون الصغار ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ أي : يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات وذكر النساء وإن كانوا يفعلون هذا بالصغار لأنه سماهن باسم المآل لأنهن إذا استبقوهن صرن نساء بعد البلوغ ولأنهم كانوا يستبقون البنات مع أمهاتهن والاسم يقع على الكبيرات والصغيرات عند الاختلاط، وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس فأحاطت بمصر وأخرجت كل قبطي بها ولم تتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة والسحرة عن رؤياه فقالوا يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن : لا يسقط على أيديكن غلام يولد في بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت ووكل القوابل فكن يفعلن ذلك حتى قيل إنه قتل في طلب موسى عليه السلام اثني عشر ألف صبي وتسعين ألف وليد وقد أعطى الله نفس موسى عليه السلام من القوة على التصرف ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة ثم أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا : إن الموت وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون عليه السلام في السنة التي لا يذبح فيها وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها فلم يرد اجتهادهم من قضاء الله شيئاً وشمر فرعون عن ساق الاجتهاد وحسر عن ذراع العناد فأراد أن يسبق القضاء ظهوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٦
﴿وَفِى ذَالِكُم﴾ إشارة إلى ما ذكر من التذبيح والاستحياء ﴿بَلاءٌ﴾ أي : محنة وبلية وكون استحياء نسائهم أي : استبقائهن على الحياة محنة مع أنه عفو وترك للعذاب لما أن ذلك كان للاسترقاق والاستعمال في الأعمال الشاقة ولأن بقاء البنات مما يشق
١٢٩
على الآباء ولا سيما بعد ذبح البنين ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ من جهته تعالى بتسليطهم عليكم ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة للبلاء وتنكيرهما للتفخيم ويجوز أن يشار بذلكم إلى الإنجاء من فرعون ومعنى البلاء حينئذٍ النعمة لأن أصل البلاء الاختبار والله تعالى يختبر عباده تارة بالمنافع ليشكروا فيكون ذلك الاختبار منحة أي : عطاء ونعمة وأخرى بالمضار ليصبروا فيكون محنة فلفظ الاختبار يستعمل في الخير والشر قال تعالى :﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾ (الأنبياء : ٣٥) ومعنى من ربكم أن يبعث موسى وبتوفيقه لتخليصكم منهم.
والإشارة أن النجاة من آل فرعون النفس الأمارة وهي صفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة في يوم سوء العذاب للروح الشريف بذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في أعمال القدرة الحيوانية لا يمكن إلا بتنجية الله كما قال عليه الصلاة والسلام :"لن ينجي أحدكم عمله" قيل ولا أنت يا رسول الله قال :"ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله" وفي ذلكم أي : في استيلاء صفات النفس على القلب والروح بلاء عظيم وامتحان عظيم بالخير والشر فمن يهده الله ويصلح باله يرجع إليه الله في طلب النجاة فينجيه الله ويهلك عدوه ومن يضلله ويخذله أخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطاً.
ثم في الآية الكريمة تنبيه على أن ما يصيب العبد من السراء والضراء من قبيل الاختبار فعليه الشكر في المسار والصبر على المضار، كما قال الحافظ :
اكر بلطف بخواني مزيد الطافست
وكر بقهر براني درون ما صافست


الصفحة التالية
Icon