واعلم أن هذه الوقعة كما أنها لموسى عليه الصلاة والسلام معجزة عظيمة لأوائل بني إسرائيل موجبة عليهم شكرها كذلك اقتصاصها على ما هي عليه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لأعقابها أن يتلقوها بالإذعان لأنه عليه السلام أخبرهم بذلك مع أنه كان أمياً لم يقرأ كتاباً وهذا غيب لم يكن له علم عند العرب فأخباره به دل على أنه أوحي إليه ذلك وذلك علامة لنبوته فما تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها حيث اتخذوا العجل إلهاً بعد الإنجاء ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم ولا تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروايتها حيث بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضاً وكفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم إلى غير ذلك فيا لها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها.
وفي الآية تهديد للكافرين ليؤمنوا وتنبيه للمؤمنين ليتعظوا وينتهوا عن المعاصي في جميع الأوقات خصوصاً في الزمان الذي أنجى الله فيه موسى
١٣٢
مع بني إسرائيل من الغرق وهو اليوم العاشر من المحرم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم :"ما هذا اليوم الذي تصومونه" فقالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "نحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر بصيامه" رواه مسلم وهذا يدل بظاهره على أن النبي عليه السلام إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبر به اليهود وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت : كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه ـ يحكى ـ أنه هرب أسير من الكفار يوم عاشوراء فركبوا في طلبه فلما رأى الفرسان خلفه وعلم أنه مأخوذ رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم بحق هذا اليوم المبارك أسألك أن تنجيني منهم فأعمى الله أبصارهم جميعاً فنجا الأسير فصام ذلك اليوم فلم يجد ما يفطر عليه ويتعشى به فنام فأطعم وسقي في المنام فعاش بعذ ذلك عشرين سنة لم يكن له حاجة إلى الطعام والشراب قال النبي عليه السلام :"التمسوا فضله فإنه يوم مبارك اختاره الله من الأيام من صام ذلك اليوم جعل الله له نصيباً من عبادة جميع من عبده من الملائكة والأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين" هذا في الصوم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٠
وأما الصلاة الواردة في يوم عاشوراء فقد ذكرها الشيخ عبد القادر قدس سره عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل فيه "ومن صلى أربع ركعات في يوم عاشوراء يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمسين مرة قل هو الله أحد غفر الله له ذنوب خمسين عاماً مستقبلاً وبنى له في الملأ الأعلى ألف منبر من نور" ويستحب إحياء ليلة عاشوراء ففي الحديث "من أحيا ليلة عاشوراء فكأنما عبد الله بعبادة ملائكته المقربين" والإشارة أن البحر هو الدنيا وماؤه شهواتها ولذاتها وموسى هو القلب وقومه صفات القلب وفرعون هو النفس الأمارة وقومه صفات النفس وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم وهم سائرون إلى الله تعالى والعدو من خلفهم وبحر الدنيا أمامهم ولا بد لهم في السير إلى الله من العبور على البحر ولا يخوضون البحر بلا ضرب عصا لا إله إلا الله على البحر بيد موسى القلب فإن له يداً بيضاء في هذا الشأن وإلا لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم يكن لها معجزة انفلاق البحر فإذا ضرب يد موسى القلب بعصا الذكر ينفلق بحر الدنيا وماء شهواتها يميناً وشمالاً ويرسل الله ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابساً من ماء الشهوات فيخوض موسى القلب وصفاته فيجاوزونه وتنجيهم عناية الله إلى الساحل وأن إلى ربك المنتهى وقيل لفرعون النفس وقومه اغرقوا فادخلوا ناراً كذا لصاحب "التأويلات النجمية" قدس الله تعالى نفسه الزكية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٠
اذكروا يا بني إسرائيل ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا﴾ وقت وعدنا وصيغة المفاعلة بمعنى الثاني أو على أصله فإن الوعد وإن كان من الله فقبوله كان من موسى وقبول الوعد شبه الوعد أو أن الله تعالى وعده الوحي وهو وعده
١٣٣