أحدهما : إن لليل خصوصية في التعبد والتقرب كقوله عليه السلام :"إن أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل" وهكذا قوله عليه السلام :"ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا" الحديث ولهذا المعنى قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِه نَافِلَةً لَّكَ﴾ (الإسراء : ١) الآية وقال تعالى :﴿سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (الإسراء : ١) والآخر إنه لو ذكر اليوم دون الليل يظن أنه موعود بالتعبد في النهار دون الليل وإنما الليل جعل للاستراحة والسكون كقوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ (يونس : ٦٧) فلما خص الليل بالذكر علم موسى عليه السلام أن التعبد في الليل واليوم جميعاً كذا في "التأويلات النجمية"، قال الشيخ الشهير بافتادة أفندي قدس سره أن النبي عليه السلام لم يعين الأربعين بل اعتكف في العشر الأخير نعم فعل موسى عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى :﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَـاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَـاهَا بِعَشْرٍ﴾ (الأعراف : ١٢٢) والخلوتية أخذوا من ذلك كذا في "واقعات الشيخ الهدائي" قدس الله نفسه الزاكية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٤
قال في "التأويلات النجمية" أيضاً : الشكر على ثلاثة أوجه شكر بالأقوال وشكر بالأعمال وشكر بالأحوال.
فشكر الأقوال أن يتحدث بالنعم مع نفسه إسراراً ومع غيره إظهاراً ومع ربه افتقاراً كما قال تعالى :﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى : ١١) وقوله صلى الله عليه وسلّم "التحدث بالنعم شكر" وشكر الأعمال أن يصرف نعمة الله في طاعته ولا يعصيه بها ويتدارك ما فاته من الطاعات وبادره من المعاصي كقوله تعالى :﴿اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا﴾ (سبأ : ١٣) وشكر الأحوال أن يتجلى المنعم بصفة الشكورية على سر العبد فلا يرى إلا المنعم في النعمة والشكور في الشكر ويرى المنعم في النعم والنعمة من المنعم والشكور في الشكر والشكر من الشكور ويرى وجوده وشكره نعمتين من نعم المنعم ورؤية النعمة فيكون نعمة وجوده مرآة جمال المنعم ويكون شكره مرآة جمال الشكور ورؤية المنعم والنعمة نعمة أخرى إلى غير نهاية فيعلم أن لا يقوم بأداء شكره ولا يشكره إلا الشكور ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور.
اذكروا يا بني إسرائيل هذا هو الإنعام الخامس ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى﴾ وقت قوله :﴿لِقَوْمِهِ﴾ الذين عبدوا العجل يا قَوْمِ} أي : يا قومي والإضافة للشفقة ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم﴾ أي : ضررتم أنفسكم
١٣٦
بإيجاب العقوبة عليها ونقصتم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى ﴿بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ﴾ أي : معبوداً قالوا أي : شيء نصنع قال :﴿فَتُوبُوا﴾ أي : فاعزموا على التوبة والفاء للسببية لأن الظلم سبب للتوبة ﴿إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ أي : من خلقكم بريئاً من العيوب والنقصان والتفاوت وميز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة والتعرض لعنوان البارئية للإرشاد بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغباوة منتهاها حيث تركوا عبادة العليم الحكيم الذي خلقهم بلطيف حكمته بريئاً من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة وإن من لم يعرف حقوق منعمه حقيق بأن تسترد هي منه ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب وقالوا كيف نتوب؟ قال :﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ أي : ليقتل البريء منكم المجرم وإنما قال أنفسكم لأن المؤمنين إخوة وأخو الرجل كأنه نفسه قال تعالى :﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ (الحجرات : ١١) يعني : ذكر قتل الأنفس وأراد به قتل الاخوان وهذا كما قال ولا تلمزوا أنفسكم أي : ولا تغتابوا إخوانكم من المسلمين كذا في "التيسير" و"تفسير أبي الليث" والفاء للتعقيب وتوبتهم هي قتلهم أي : فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم كذا في "الكشاف" وقال في "التفسير الكبير" وليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس بل بيان أن توبتهم لا تتم ولا تحصل إلا بقتل النفس وإنما كان كذلك لأن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل ﴿ذالِكُمْ﴾ أي : التوبة والقتل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٤


الصفحة التالية
Icon