﴿خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ﴾ أنفع لكم عند الله من الامتناع الذي هو إصرار وفيه عذاب لما أن القتل طهرة من الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية.
﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ خطاب منه تعالى أي : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم أي : قبل توبتكم وتجاوز عنكم وإنما لم يقل فتاب عليهم على أن الضمير للقوم لما أن ذلك نعمة أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم.
فإن قلت إنه تعالى أمر بالقتل والقتل لا يكون نعمة.
قلت : إن الله نبههم على عظيم ذنبهم ثم نبههم على ما به يتخلصون من ذلك العظيم وذلك من النعم في الدين.
﴿أَنَّهُ﴾ الله تعالى ﴿هُوَ التَّوَّابُ﴾ أي : الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويبالغ في قبولها منهم ﴿الرَّحِيمُ﴾ كثير الرحمة للمطيعين أمره حيث جعل القتل كفارة لذنوبهم، قال السعدي :
فروماند كانرا برحمت قريب
تضرع كنانرا بدعوت مجيب
روى أنهم لما أمرهم موسى بالقتل قالوا نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين مذعنين وقيل لهم من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردود توبته وأصلت القوم عليهم الخناجر أي : حملوا عليهم الخناجر ورفعوا وضربوهم بها وكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله قالوا : يا موسى كيف تفعل؟ فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتلونهم إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون وبكيا وتضرعا وقالا : يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله السحابة ونزلت التوبة وأمرهم أن يكفوا عن القتل فقتل منهم سبعون ألفاً فكان من قتل شهيداً ومن بقي مغفورة ذنوبه وأوحى إلى موسى عليه السلام أني أدخل القاتل والمقتول الجنة هذا على رواية أن القاتل من المجرمين على أن معنى قوله فاقتلوا أنفسكم
١٣٧
ليقتل بعض المجرمين بعضاً فالقاتل هو الذي بقي من المجرمين بعد نزول أمر الكف عن القتل وإلا فالقاتل على الرواية الأخرى هو البريء كما سبق في تفسير الآية.
روي أن الأمر بالقتل من الأغلال التي كانت عليهم وهي المواثيق اللازمة لزوم الغل ومن الإصر وهو الأعمال الشاقة كقطع الأعضاء الخاطئة وعدم جواز صلاتهم في غير المسجد وعدم التطهير بغير الماء وحرمة أكل الصائم بعد النوم ومنع الطيبات عنهم بالذنوب وكون الزكاة ربع مالهم وكتابة ذنب الليل على الباب بالصبح وكما روى أن بني إسرائيل إذا قاموا يصلون لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية وحبس نفسه على العبادة فهذه الأمور رفعت عن هذه الأمة تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلّم
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٤
فالتوبة نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرها ولها أربع مراتب :
فالأولى مختصة باسم التوبة : وهي أول منزل من منازل السالكين وهي للنفس الأمارة وهذه مرتبة عوام المؤمنين وهي ترك المنهيات والقيام بالمأمورات وقضاء الفوائت ورد الحقوق والاستحلال من المظالم والندم على ما جرى والعزم على أن لا يعود.
والمرتبة الثانية الإنابة : وهي للنفس اللوامة وهذه مرتبة خواص المؤمنين من الأولياء والإنابة إلى الله بترك الدنيا والزهد في ملاذها وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس بمخالفة هواها والمداومة على جهادها فالنفس إذا تحلت بالإنابة دخلت في مقام القلب واتصفت بصفته لأن الإنابة من صفات القلب قال تعالى :﴿وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ (ق : ٣٣).
والمرتبة الثالثة الأوبة : وهي للنفس الملهمة وهذه مرتبة خواص الأولياء والأوبة إلى الله من آثار الشوق إلى لقائه فالنفس إذا تحلت بالأوبة دخلت في مقام الروح ومن أمارات الأواب المشتاق أن يستبدل المخالطة بالعزلة ومنادمة الأخدان بالخلوة ويستوحش عن الخلق ويستأنس بالحق ويجاهد نفسه في الله حق جهاده ساعياً في قطع تعلقاتها عن الكونين.
والمرتبة الرابعة : وهي للنفس المطمئنة وهي مرتبة الأنبياء وأخص الأولياء قال تعالى :﴿ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ﴾ (الفجر : ٢٨) وهي صورة جذبة العناية الربوبية نفوس الأنبياء والأولياء تجذبها من أنانيتها إلى هوية ربوبيته راضية أي : طائعة تلك النفوس شوقاً إلى لقاء ربها مرضية أي : على طريقة مرضية في السير لربها باذلة نفسها في مشاهدة اللقاء طامعة لرفع الاثنينية ودوام الإلتقاء.
قيل لما قدم الحلاج لتقطع يده قطعت اليد اليمنى أولاً فضحك ثم قطعت اليد اليسرى فضحك ضحكاً بليغاً فخاف أن يصفر وجهه من نزف الدم فكب وجهه على الدم السائل ولطخ وجهه بدمه وأنشأ يقول :
الله يعلم أن الروح قد تلفت
شوقاً إليك ولكني أمنيها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي
أشهى إليّ من الدنيا وما فيها
يا قوم إني غريب في دياركمو
سلمت روحي إليكم فاحكموا فيها
ما أسلم النفس للأسقام تتلفها
إلا لعلمي بأن الوصل يحييها
نفسُ المحب على الآلام صابرة


الصفحة التالية
Icon