﴿ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم﴾ أي : أحييناكم ﴿مِّنا بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ بتلك الصاعقة وقيد البعث بقوله من بعد موتكم مع أنه يكون بعد الموت لما أنه قد يكون من الإعماء أو من النوم.
قال قتادة : أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم وكان ذلك الموت بلا أجل وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة لغيرهم قبل انقضاء آجالهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة.
فإن قلت كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثوا بعد الموت؟ قلنا : الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة هو الإماتة ثم الإحياء وإنما يمنع من ذلك لأنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات وما في النار من الآلام وبعد العلم الضروري لا تكليف فإذا كان المانع هو هذا لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصعقة أن لا يكون قد اضطرهم وإذا كان كذلك صح أن يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الإحياء بمنزلة النوم أو بمنزلة الإغماء.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمة الحياة بالتوحيد والطاعة أو لعلكم تشكرون وقت مشاهدتكم بأس الله بالصاعقة نعمة الإيمان التي كفرتموها بقولكم : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فإن ترك النعمة لأجل طلب الزيادة كفران لها أي : لعلكم تشكرون نعمة الإيمان فلا تعودون إلى اقتراح شيء بعد ظهور المعجزة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٩
وأصل القصة أن موسى عليه السلام لما رجع من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وأحرق العجل وألقاه في البحر وندم القوم على ما فعلوا وقالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين أمر الله موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار موسى سبعين من قومه من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : سل ربنا حتى يسمعنا كلامه فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه وقال للقوم ادخلوا فكلم الله موسى يأمره وينهاه وكلما كلمه تعالى أوقع على جبهته نوراً ساطعاً لا يستطيع أحد من السبعين النظر إليه وسمعوا كلامه تعالى مع موسى افعل لا تفعل فعند ذلك طمعوا في الرؤية وقالوا ما قالوا فأخذتهم الصاعقة فخروا صاعقين ميتين يوماً وليلة فلما ماتوا جميعاً جعل موسى بيكي ويتضرع رافعاً يديه إلى السماء يدعو ويقول : يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم وماذا أقول لهم إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم قبل هذا اليوم مع أصحاب العجل أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله ورد إليهم أرواحهم وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قالوا إن موسى عليه السلام سأل الرؤية في المرة الأولى في الطور ولم يمت لأن صعقته لم تكن موتاً ولكن غشية بدليل قوله تعالى :﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾ (الأعراف : ١٤٣) وسأل قومه في المرة الثانية حين خرجوا للاعتذار وماتوا وذلك لأن سؤال موسى كان اشتياقاً وافتقاراً وسؤال قومه كان تكذيباً واجتراء ولم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام وطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي وهي محال وليس
١٤٠
في الآية دليل على نفي الرؤية بل فيها إثباتها وذلك أن موسى عليه السلام لما سأله السبعون لم ينههم عن ذلك وكذلك سأل هو ربه الرؤية فلم ينهه عن ذلك بل قال :﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى﴾ (الأعراف : ١٤٣) وهذا تعليق بما يتصور.
قال بعض العلماء الحكماء الحكمة في أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وجوه :
الأول : أن الدنيا دار أعدائه لأن الدنيا جنة الكافر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٩
الثاني : لو رآه المؤمن لقال الكافر لو رأيته لعبدته ولو رأوه جميعاً لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
الثالث : أن المحبة على غيب ليست كالمحبة على عين.
الرابع : أن الدنيا محل المعيشة ولو رآه الخلق لاشتغلوا عن معائشهم فتعطلت.
الخامس : أنه جعلها بالبصيرة دون البصر ليرى الملائكة صفاء قلوب المؤمنين.
السادس : ليقدر قدرها إذ كل ممنوع عزيز.
السابع : إنما منعها رحمة بالعباد لما جبلوا عليه في هذه الدار من الغيرة إذ لو رآه أحد تصدع قلبه من رؤية غيره إياه كما تصدع الجبل غيرة من أن يراه موسى.


الصفحة التالية
Icon