والإشارة في الآية أن مطالبة الرؤية جهرة هي تعريض مطالبة الذات غفلة فيوجب سوء الأدب وترك الحرمة وذلك من أمارات البعد والشقاوة فمن سطوات العظمة والعزة أخذتهم الرجفة والصعقة إظهاراً للعدل ثم أفاض عليهم سجال النعي إسبالاً للسر على هيئات العبيد والخدم وقال :﴿ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم مِّنا بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ إظهاراً للفضل ومن علامات الوصلة ودلالات السعادة التولي بمكاشفات العزة مقروناً بملاطفات القربة فمن أصلح حاله لم يطلق لسان الجهل بل أتى البيت من بابه ويتأدب في سؤاله وجوابه، قال في "المثنوي" :
يش بينايان كنى ترك أدب
نار شهوت را ازان كشتى حطب
ون ندارى فطنت ونور هدا
بهر كوران روى را ميزن جلا
ولا بد من قتل النفس الأمارة حتى تحكم في عالم الحقيقة بما شئت.
قال القشيري التوبة بقتل النفوس غير منسوخة في هذه الأمة إلا أن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهراً وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سراً وأول قدم هو القصد إلى الله والخروج من النفسقال : ولقد توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق وليس كما توهموا فإن ذلك كان مرة واحدة وأهل الخصوص من هذه الأمة قتلهم أنفسهم في كل لحظة كما قيل :
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الاحياء
وفي "المثنوي" :
قوت ازحق خواهم وتوفيق ولاف
تابسوزن بر كنم اين كوه قاف
سهل شيرى دانكه صفها بشكند
شير آنست آنكه خودرابشكند
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٣٩
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ هذا هو الإنعام السابع، أي : جعلنا الغمام ظلة عليكم يا بني إسرائيل وهذا جرى في التيه بين مصر والشام فإنهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر وقعوا في صحراء لا أبنية فيها أمرهم الله تعالى بدخول مدينة الجبارين وقتالهم فقبلوا فلما قربوا منها سمعوا بأن أهلها جبارون أشداء قامة أحدهم سبعمائة ذراع ونحوها فامتنعوا وقالوا لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فعاقبهم الله بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة وكانت
١٤١
المفازة يعني التيه اثني عشر فرسخاً فأصابهم حر شديد وجوع مفرط فشكوا إلى موسى فرحمهم الله فأنزل عليهم عموداً من نور يدلى لهم من السماء فيسير معهم بالليل يضيء لهم مكان القمر إذا لم يكن قمر وأرسل غماماً ؛ أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر يظللهم من حر الشمس في النهار وسمي السحاب غماماً لأنه يغم السماء أي يسترها والغم حزن يستر القلب ثم سألوا موسى الطعام فدعا ربه فاستجاب له وهو قوله تعالى :﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ﴾ أي : الترنجبين بفتح الراء وتسكين النون كان أبيض مثل الثلج كالشهد المعجون بالسمن أو المن جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" أي : مما منّ الله على عباده والظاهر أن مجرد مائه شفاء لأنه عليه السلام أطلق ولم يذكر الخلط ولما روى عن أبي هريرة أنه قال : عصرت ثلاثة أكمؤ وجعلت ماءها في قارورة فكحلت منه جارية لي فبرئت بإذن الله تعالى.
وقال النووي رأينا في زماننا أعمى كحل عينه بمائها مجرداً فشفي وعاده إليه ثم لما ملّوا من أكله قالوا : يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم فأنزل الله عليهم السلوى وذلك قوله :﴿وَالسَّلْوَى﴾ هو السماني كانت تحشره عليهم الريح الجنوب وكانت الريح تقطع حلوقها وتشق بطونها وتمعط شعورها وكانت الشمس تنضجها فكانوا يأكلونها مع المن وأكثر المفسرين على أنهم يأخذونها فيذبحونها فكان ينزل عليهم المن نزول الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وتأتيهم السلوى فيأخذ كل إنسان منهم كفايته إلى الغد إلا يوم الجمعة يأخذ ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت لأنه كان يوم عبادة فإن أخذ أكثر من ذلك دوّد وفسد ﴿كُلُوا﴾ أي : قلنا لهم كلوا :﴿مِن طَيِّبَـاتِ﴾ حلالات ﴿مَا رَزَقْنَـاكُمْ﴾ من المن والسلوى ولا ترفعوا منه شيئاً ادخاراً ولا تعصوا أمري فرفعوا وجعلوا اللحم قديداً مخافة أن ينفد ولو لم يرفعوا لدام عليهم ذلك، والطيب : ما لا تعافه طبعنا ولا تكرهه شرعاً ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ أي : فظلموا بأن كفروا تلك النعمة الجليلة وادخروا بعدما نهوا عنه وما ظلمونا أي : ما بخسوا بحقنا ﴿وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ باستيجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤونة في الدنيا ولا حساب في العقبى فرفعنا ذلك عنهم لعدم توكلهم علينا، قال في "المثنوي" :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤١
سالها خوردي وكم نامد زخور
ترك مستقبل كن وماضي نكر