﴿وَإِذْ قُلْتُمْ﴾ تذكير لجناية أخرى لأسلاف بني إسرائيل وكفرانهم لنعمة الله عز وجل خاطبهم تنزيلاً لهم مكان آبائهم لما بينهم من الاتحاد وكان هذا القول منهم في التيه حين سئموا من أكل المنّ والسلوى لكونهما غير مبدلين والإنسان إذا داوم شيئاً واحداً سئمه وتذكروا عيشهم الأول بمصر لأنهم كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : يا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} الطعام ما يتغذى به وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فيصيران طعاماً واحداً أو أريد بالواحد نفي التبدل والاختلاف ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤٩
وفي "تفسير البغوي" : والعرب تعبر عن الواحد
١٤٩
بلفظ الاثنين كقوله :﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ وإنما يخرج من الملح دون العذب وقيل : لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد بنفسه وكان فيهم أول من اتخذ العبيد والخدم ﴿فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ أي : سله لأجلنا بدعائك إياه والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء ﴿يُخْرِجْ لَنَا﴾ أي : يظهر لنا ويوجد شيئاً فالمفعول محذوف والجزم لجواب الأمر فإن دعوته سبب الإجابة أي : أن تدع لنا ربك يخرج لنا ﴿مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ﴾ إسناد مجازي بإقامة القابل وهو الأرض مقام الفاعل وهو الله تعالى ومن تبعيضية وما موصولة ﴿مِنا بَقْلِهَا﴾ من بيانية واقعة موقع الحال من الضمير أي : مما تنبته كائناً من بقلها والبقل ما تنبت الأرض من الخضر والمراد أصناف البقول التي تأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها ﴿وَقِثَّآئِهَا﴾ أخو القثد وهي شيء يشبه الخيار ﴿وَفُومِهَا﴾ وهو الحنطة لأن ذكر العدس يدل على أنه المراد لأنه من جنسه وقيل : هو الثوم لأن ذكر البصل يدل على أنه هو المراد فإنه من جنسه.
قال ابن التمجيد في "حواشيه" وحمله على الثوم أوفق من الحنطة لاقتران ذكره بالبصل والعدس فإن العدس يطبخ بالثوم والبصل ﴿وَعَدَسِهَا﴾ حب معروف يستوي كيله ووزنه ﴿وَبَصَلِهَا﴾ بقل معروف تطيب به القدور ﴿قَالَ﴾ استئناف وقع جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال الله لهم أو موسى عليه السلام فقيل : قال إنكاراً عليهم ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾ أي : أتأخذون لأنفسكم وتختارون ﴿الَّذِى هُوَ أَدْنَى﴾ أي : أقرب منزلة وأدون قدراً ﴿بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ﴾ أي : بمقابلة ما هو خير فإن الباء تصحب الزائل دون الآتي الحاصل وخيرية المن والسلوى في اللذاذة وسقوط المشقة وغير ذلك ولا كذلك الفوم والعدس والبصل وأمثالها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤٩
قال بعضهم : الحنطة وإن كانت أعلى من المن والسلوى لكن خساستها ههنا بالنسبة إلى قيمتها وليس في الآية ما يدل قطعها على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى وحصول ما طلبوا مكانه لتحقق الاستبدال في صورة المناوبة لأنهم أرادوا بقولهم لن نصبر على طعام واحد أن يكون هذا تارة وذاك أخرى ﴿اهْبِطُوا﴾ أي : انحدروا وانزلوا من التيه إن كنتم تريدون هذه الأشياء ﴿مِصْرًا﴾ من الأمصار لأنكم في البرية فلا يوجد فيها ما تطلبون وإنما يوجد ذلك في الأمصار فالمراد ليس مصر فرعون لقوله تعالى : يا قَوْمِ ادْخُلُوا الارْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (المائدة : ٢١) وإذا وجب عليهم دخول تلك الأرض فكيف يجوز دخول مصر فرعون وهو الأظهر والمصر البلد العظيم من مصر الشيء بمصره أي : قطعه سمي به لانقطاعه عن الفضاء لعمارة وقد تسمى القرية مصراً كما تسمى المصر قرية وهو ينصرف ولا ينصرف فصرف ههنا لأن المراد غير معين وقيل : أريد به مصر فرعون وإنما صرف لسكون وسطه كهند ودعد ونوح أو لتأويله بالبلد دون المدينة فلم يوجد فيه غير العلمية ﴿فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ﴾ تعليل للأمر بالهبوط أي : فإن لكم فيه ما سألتموه من بقول الأرض ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ أي : الذل والهوان ﴿وَالْمَسْكَنَةُ﴾ أي : الفقر يسمى الفقير مسكيناً لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة أي : جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه وألصقتا بهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان
١٥٠
عنهم مجازاة لهم على كفرانهم كما يضرب الطين على الحائط فهوا ستعارة بالكناية فترى اليهود وإن كانوا مياسير كأنهم فقراء أي رجعوا ﴿بِغَضَبٍ﴾ عظيم كائن ﴿مِّنَ اللَّهِ﴾ أي : استحقوه ولزمهم ذلك ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم "أبوء بنعمتك علي" أي : أقربها وألزمها نفسي وغضب الله تعالى ذمه إياهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة ﴿ذَلِكَ﴾ أي : ضرب الذلة والمسكنة والبوء والغضب العظيم ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ أي : بسبب أن اليهود ﴿كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ على الاستمرار ﴿بِاَيَاتِ اللَّهِ﴾


الصفحة التالية
Icon