﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي : أعرضتم عن الميثاق والوفاء به والدوام عليه ﴿مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ﴾ الميثاق المؤكد ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ عطفه بالإمهال وتأخير العذاب ﴿لَكُنتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ أي : من الهالكين ولكن تفضل عليكم حيث رفع الطور فوقكم حتى تبتم فزال الجبل عنكم ولولا ذلك لسقط عليكم والخسران في الأصل ذهاب رأس المال وهو ههنا هلاك النفس لأنها الأصل وقد منّ الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلّم حيث فرض عليهم الفرائض واحدة بعد واحدة ولم يفرض عليهم جملة فإذا استقرت الواحدة في قلوبهم فرض عليهم الأخرى وأما بنو إسرائيل فقد فرض عليهم بدفعة واحدة فشق عليهم ذلك ولذا لم يقبلوا حتى رأوا العذاب ثم إن الله تعالى أمر بحفظ الأوامر والعمل وبعدم النسيان والتضييع وقال : واذكروا ما فيه وهو المقصود من الكتب الإلهية لأن العمدة العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيبها فإن ذلك نبذ لها مثاله أن السلطان إذا أرسل منشوراً إلى واحد من أمرائه في ممالكه وأمره فيه أن يبني له قصراً في تلك الديار فوصل الكتاب إليه وهو لا يبني ما أمر به لكنه يقرأ المنشور كل يوم فلو حضر السلطان ولم يجد القصر حاضراً فالظاهر أنه يستحق العتاب بل العقاب فالقرآن إنما هو مثل ذلك المنشور قد أمر الله فيه عبيده أن يعمروا أركان الدين من الصوم والصلاة وغيرهما فمجرد قراءة القرآن بغير عمل لا يفيد قال في "المثنوي" :
هست قرآن خالهاي انبيا
ماهيان بحر اك كبريا
وربخواني ونه قرآن ذير
انبيا وأوليارا ديده كير
روي أنه عليه السلام شخص ببصره إلى السماء يوماً ثم قال :"هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء" فقال زياد بن لبيد الأنصاري كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا فقال صلى الله عليه وسلّم "ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم" وفي الموطأ : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لإنسان :"إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه يحفظ فيه حدود القرآن ويضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي يطولون الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون فيه أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطولون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم".
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٥
والإشارة في الآية أن أخذ الميثاق كان عاماً كما كان في عهد ألست بربكم ولكن قوماً أجابوه شوقاً وقوماً أجابوه خوفاً ليتحقق أن الأمر بيد الله في كلتا الحالتين يسمع خطابه من يشاء موجباً للهداية ويسمع من يشاء موجباً للضلالة فإنه لا برهان أظهر من رفع الطور فوقهم عياناً فلما أوبقهم الخذلان لم ينفعهم إظهار البرهان وفي قوله :﴿خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم بِقُوَّةٍ﴾ إشارة إلى أن أخذ ما يؤتي الله من الأوامر والنواهي والطاعات والعلوم وغير ذلك لا يمكن للقوة الإنسانية إلا بقوة ربانية وتأييد إلهي ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ من الرموز والإشارات والدقائق والحقائق ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ بالله عما سواه ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ﴾ أي : أعرضتم عن طريق
١٥٥
الحق واتباع الشريعة باستيلاء قوة الطبيعة بعد أخذ الميثاق وسلوك طريق الوفاق ابتلاء من الله ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ وهو سبق العناية في البداية وتوفيق أخذ الميثاق بالقوة في الوسط وقبول التوبة وتوفيقها والثبات عليها في النهاية.
﴿لَكُنتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ المصرين على العصيان المغبونين بالعقوبة والخسران والمبتلين بذهاب الدنيا والعقبى ونكال الآخرة والأولى كما كان حال المصرين منكم والمعتدين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٥