﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ خطاب لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلّم من اليهود أي : وبالله قد عرفتم يا بني إسرائيل ﴿الَّذِينَ اعْتَدَوْا﴾ أي : تجاوزوا الحد ظلماً ﴿مِّنكُم﴾ من أسلافكم محله نصب على أنه حال ﴿فِى﴾ يوم ﴿السَّبْتِ﴾ أي : جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد.
وأصل السبت القطع لأن اليهود أمروا بأن يسبتوا فيه أي : يقطعوا الأعمال ويشتغلوا بعبادة الله ويسمى النوم سباتاً لأنه يقطع الحركات الاختيارية وفيه تحذير وتهديد فكأنه يقول إنكم تعلمون ما أصابهم من العقوبة فاحذروا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم.
والقصة فيه أنهم كانوا في زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة بين المدينة والشام على ساحل بحر القلزم حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك إما ابتلاء لأولئك القوم وإما لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس ففي كل سبت يجتمعن لزيارتها ويخرجن خراطيمهن من الماء حتى لا يرى الماء من كثرتها وإذا مضى السبت تفرقن ولزمن مقل البحر فلا يرى شيء منها ثم إن الشيطان وسوس إليهم وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فعمد رجال من أهل تلك القرية فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا يقدرن على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها فإذا كان يوم الأحد يصطادونها فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا فكثرت أموالهم ففعلوا ذلك زماناً أربعين سنة أو سبعين لم تنزل عليهم عقوبة وكانوا يتخوفون العقوبة فلما لم يعاقبوا استبشروا وتجرؤوا على الذنب، وقالوا : ما نرى السبت إلا قد أحل لنا ثم استن الأبناء سنة الآباء فلو أنهم فعلوا ذلك مرة أو مرتين لم يضرهم فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا نحواً من سبعين ألفاً ثلاثة أصناف صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه وصنف انتهك الحرمة وكان الناهون اثني عشر الفاً فنهوهم عن ذلك وقالوا : يا قوم إنكم عصيتم ربكم وخالفتم سنة نبيكم فانتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم البلاء فلم يتعظوا وأبوا قبول نصحهم فعاقبهم الله بالمسخ وذلك قوله تعالى :﴿فَقُلْنَا لَهُمْ﴾ قهراً ﴿كُونُوا قِرَدَةً﴾
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٥
جمع قرد كالديكة جمع ديك بالفارسية "وزينه" وهذا أمر تحويل لأنهم لم يكن لهم قدرة على التحول من صورة إلى صورة وهو إشارة إلى قوله :﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (النحل : ٤٠) أي : لما أردنا ذلك صاروا كما أردنا من غير امتناع ولا لبث ﴿خَـاسِئِينَ﴾ هو وقردة خبران أي : كونوا جامعين بين القردية والخسء وهو الصغار والطرد وذلك أن المجرمين لما أبوا قبول النصح قال الناهون والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار وصيروها بذلك ثنتين فلعنهم داود وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية فمسخوا ليلاً فلما أصبح الناهون أتوا أبوابها فإذا هي مغلقة لا يسمع منها صوت
١٥٦
ولا يعلو منها دخان فتسوروا الحيطان ودخلوا فرأوهم قد صار الشبان قردة والشيوخ خنازير لها أذناب يتعاوون فعرفت القردة أنسابهم من الإنس ولم يعرف الإنس أنسابهم من القردة فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول : ألم ننهكم عن ذلك فكانوا يشيرون برؤوسهم أي : نعم والدموع تفيض من أعينهم ودل ذلك على أنهم لما مسخوا بقي فيهم الفهم والعقل ثم لم يكن ابتداء القردة من هؤلاء بل كانت قبلهم قردة وهؤلاء حولوا إلى صورتها لقبحها جزاء على قبح أعمالهم وأفعالهم وماتوا بعد ثلاثة أيام ولم يتوالدوا والقردة التي في الدنيا هي نسل قردة كانت قبلهم.
﴿فَجَعَلْنَـاهَا﴾ أي : صيرنا مسخة تلك الأمة وعقوبتها ﴿نَكَـالا﴾ أي : عبرة تنكل من اعتبر بها أي : تمنعه من أن يقدم على مثل صنيعهم ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ أي : لما قبلها وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين فاستعير ما بين يديها للزمان الماضي وما خلفها للمستقبل ﴿وَمَوْعِظَةً﴾ أي : تذكرة ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متق سمعها فاللام للاستغراق العرفي على التقديرين، قال السعدي :
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندر بند
ند كيراز مصائب دكران
تانكيرند ديكران زتو ند