إنما المراد بها إرشاد الغير إلى الصراط المستقيم وقد يكون عريا مما يرشد إليه مثال اجتماعها رجل تفقه في أمر صلاته وحققها ثم علمها غيره فهذا مستقيم في قوله ثم حضر وقتها فأداها على ما علمها محافظاً على أركانها الظاهرة فهذا مستقيم في فعله ثم علم أن مراد الله منه من تلك الصلاة حضور قلبه معه فأحضره فهذا مستقيم بقلبه وقس على ذلك بقية الأقسام، وفي "التأويلات النجمية" أن أقسام الهداية ثلاثة : الأولى : هداية العامة، أي : عامة الحيوانات إلى جلب منافعها وسلب مضارها وإليه أشار بقوله تعالى :﴿أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى﴾ (طه : ٥٠) وقوله :﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ﴾ (البلد : ١٠)، والثانية : هداية الخاصة أي : للمؤمنين إلى الجنة وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ﴾ (يونس : ٩) الآية، والثالثة : هداية الأخص وهي هداية الحقيقة إلى الله بالله وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ (البقرة : ١٢٠) وقوله :﴿إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الصافات : ٩٩) وقوله :﴿اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ (الشورى : ١٣) وقوله :﴿وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى﴾ (الضحى : ٧) أي : كنت ضالاً في تيه وجودك فطلبتك بجودي ووجدتك بفضلي ولطفي وهديتك بجذبات عنايتي ونور هدايتي إلي وجعلتك نوراً فأهدي بك إلى من أشاء من عبادي فمن اتبعك وطلب رضاك فنخرجهم من ظلمات الوجود البشري إلى نور الوجود الروحاني، ونهديهم إلى صراط مستقيم كما قال تعالى :﴿قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللَّهُ﴾ (المائدة : ١٥ ـ ١٦) والصراط المستقيم هو الدين القويم وهو ما يدل عليه القرآن العظيم وهو خلق سيد المرسلين صلى الله عليه وسلّم فيما قال تعالى :﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم : ٤) ثم هو إما إلى الجنة وذلك لأصحاب اليمين كما قال تعالى :﴿وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ (يونس : ٢٥) الآية وإما إلى الله تعالى وهذا للسابقين المتقربين كما قال تعالى :﴿إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ﴾ (الشورى : ٥٢ ـ ٥٣) وكل ما يكون لأصحاب اليمين يحصل للسابقين وهم سابقون على أصحاب اليمين بما لهم من شهود الجمال وكشف الجلال وهذا خاصة لسيد المرسلين ومتابعيه كما قال تعالى :﴿قُلْ هَاذِه سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى﴾ (يوسف : ١٠٨) : قال الشيخ سعدى قدس سره :
اكر جز بحق مي رود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بدل من الأول بدل الكل والإنعام إيصال النعمة وهي في الأصل الحال التي يستلذها الإنسان فأطلقت على ما يستلذه من نعمة الدين الحق، قال أبو العباس بن عطاء : هؤلاء المنعم عليهم هم طبقات فالعارفون أنعم الله عليهم بالمعرفة والأولياء أنعم الله عليهم بالصدق والرضى واليقين والصفوة والأبرار أنعم الله عليهم بالحلم والرأفة والمريدون أنعم الله عليهم بحلاوة الطاعة والمؤمنون أنعم الله عليهم بالاستقامة، وقيل : هم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى :﴿فأولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ (النساء : ٦٩) وأضيف الصراط هنا إلى العباد وفي قوله :﴿وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ (الأنعام : ١٥٣) إلى ذاته تعالى كما أضيف الدين والهدى تارة إلى الله تعالى نحو ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ﴾ (آل عمران : ٨٣)، ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ (آل عمران : ٧٣) وتارة إلى العباد نحو ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة : ٤٣)، ﴿فَبِهُدَااهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام : ٩٠) وسره من وجوه : الأول : بيان أن ذلك كله له شرعاً ولنا نفعاً كما قال تعالى :﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ﴾ (الشورى : ١٣)، والثاني : أنه له ارتضاء واختياراً ولنا سلوكاً وائتماراً، والثالث : أنه أضافه إلى نفسه قطعاً لعجب العبد وإلى العبد تسلية لقلبه، والرابع : أنه أضافه
٢٢
إلى العبد تشريفاً له وتقريباً وإلى نفسه قطعاً لطمع إبليس عنه كما قيل لما نزل قوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون : ٨) قال الشيطان : إن لم أقدر على سلب عزة الله ورسوله أسلب عزة المؤمنين فقال الله تعالى :﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ (فاطر : ١٠) فقطع طمعه كذا في "التيسير"، وتكرار الصراط إشارة إلى أن الصراط الحقيقي صراطان : من العبد إلى الرب ومن الرب إلى العبد فالذي من العبد إلى الرب طريق مخوف كم قطع فيه القوافل وانقطع به الرواحل ونادى منادي العزة لأهل العزة الطلب رد والسبيل سد وقاطع الطريق يقطع على هذا الفريق


الصفحة التالية
Icon