جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٢
﴿لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف : ١٦) الآية والذي من الرب إلى العبد طريق آمن وبالأمان كائن قد سلم فيه القوافل وبالنعم محفوف المنازل يسير فيه سيارته ويقاد بالدلائل قادته ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ﴾ (النساء : ٦٩) الآية أي : أنعم الله على أسرارهم بأنوار العناية وعلى أرواحهم بأسرار الهداية وعلى قلوبهم بآثار الولاية وعلى نفوسهم في قمع الهوى وقهر الطبع وحفظ الشرع بالتوفيق والرعاية وفي مكايد الشيطان بالمراقبة والكلاية، والنعم إما ظاهرة : كإرسال الرسل وإنزال الكتب وتوفيق قبول دعوة الرسل واتباع السنة واجتناب البدعة وانقياد النفس للأوامر والنواهي والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية، وإما باطنة : وهي ما أنعم على أرواحهم في بداية الفطرة بإصابة رشاش نوره كما قال عليه السلام :"إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل" فكان فتح باب صراط الله إلى العبد من رشاش ذلك النور وأول الغيث رش ثم ينسكب فالمؤمنون ينظرون بذلك النور المرشوش إلى مشاهدة المغيث وينتظرون الغيث ويستعينون ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بجذبات ألطافك وفتحت عليهم أبواب فضلك ليهتدوا بك إليك فأصابوا بما أصابهم بك منك كذا في "التأويلات النجمية".
قال الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره في "الفكوك" في تأويل الحديث المذكور : لا شك أن الوجود المحض يتعقل في مقابلته العدم المضاد له فإن للعدم تعيناً في التعقل لا محالة وله الظلمة كما أن الوجود له النورانية ولهذا يوصف الممكن بالظلمة فإنه يتنور بالوجود فيظهر فظلمته من أحد وجهيه الذي يلي العدم وكل نقص يلحق الممكن ويوصف به إنما ذلك من أحكام النسبة العدمية وإليه الإشارة يقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم :"إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليه من نوره فظهر" وخلق ههنا بمعنى التقدير فإن التقدير سابق على الإيجاد ورش النور كناية عن إفاضة الوجود على الممكنات فاعلم ذلك انتهى كلام الشيخ.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ﴾ بدل من الذين على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال، وكلمة غير على ثلاثة أوجه : الأول : بمعنى المغايرة وفارسيته "جز" قال الله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٢
﴿لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾ (الإسراء : ٧٣) والثاني : بمعنى لا وفارسيته "نا" قال تعالى :﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ﴾ (البقرة : ١٧٣) والثالث : بمعنى إلا وفارسيته "مكر" قال تعالى :﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الذاريات : ٣٦) وصرفها ههنا على هذه الوجوه محتمل غير أن معنى الاستثناء مخصوص بقراءة النصب، والغضب ثوران النفس عند إرادة الانتقام يعني : أنه حالة نفسانية تحصل عند غليان النفس ودم القلب لشهوة الانتقام وهنا نقيض الرضى أو إرادة الانتقام أو تحقيق الوعيد أو الأخذ الأليم أو البطش الشديد أو هتك الأستار
٢٣
والتعذيب بالنار لأن القاعدة التفسيرية أن الأفعال التي لها أوائل بدايات وأواخر غايات إذا لم يمكن إسنادها إلى الله باعتبار البدايات يراد بها حين الإسناد غاياتها كالغضب والحياء والتكبر والاستهزاء والغم والفرح والضحك والبشاشة وغيرها والضلال : العدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأ، والمراد بالمغضوب عليهم العصاة وبالضالين الجاهلون بالله لأن المنعم عليهم هم الجامعون بين العلم والعمل فكان المقابل لهم من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ (النساء : ٩٣) والمخل بالعلم جاهل ضال كقوله تعالى :﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ﴾ (يونس : ٣٢) أو المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى في حقهم :﴿مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ والضالون النصارى لقوله تعالى في حقهم :﴿قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ وليس المراد تخصيص نسبة الغضب باليهود ونسبة الضلال بالنصارى لأن الغضب قد نسب أيضاً إلى النصارى وكذا الضلال قد نسب إلى اليهود في القرآن بل المراد أنهما إذا تقابلا فالتعبير بالغضب الذي هو إرادة الإنتقام لا محالة باليهود أليق لغاية تمردهم في كفرهم من اعتدائهم وقتلهم الأنبياء وقولهم :﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ وغير ذلك، فإن قلت : من المعلوم أن المنعم عليهم غير الفريقين فما الفائدة في ذكرهما بعدهم، قلت : فائدته وصف إيمانهم بكمال الخوف من حال الطائفتين بعد وصفه بكمال الرجاء في قوله :﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ قال عليه السلام :"لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا".


الصفحة التالية
Icon