أحدهما : أن ترى ما جبلت عليه من النقص فلا تعتد بشيء يظهر منك لعلمك بدسائسك وخباثة نفسك.
الثاني : أن تنظر إليك من حيث أنت فلا ترى لائقاً بك إلا النقص وتنظر إلى مولاك فتراه أهلاً لكل كمال فكل ما يصدر لك من إحسان نسبته إليه اعتباراً بما أنت عليه من خمول الوصف.
الثالث : أن تظهر لنفسك ما يوجب نفي دعواها من مباح مستبشع أو مكروه لم يمنع دواء لعلة العجب لا محرماً متفقاً عليه إذ كما لا يصح دفن الزرع في أرض رديئة لا يجوز الخمول في حالة غير مرضية.
﴿وَقَالُوا﴾ أي : اليهود الموجودون في عصر النبي عليه السلام ﴿قُلُوبُنَا غُلْفُ﴾ جمع اغلف مستعار من الأغلف الذي لم يختن أي : هي مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد ولا تفقهه ثم رد الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق واضرب وقال :﴿بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ أي : خذلهم وخلاهم وشأنهم بسبب كفرهم العارض وإبطالهم لاستعدادهم بسوء اختيارهم بالمرة ﴿فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ ما مزيدة للمبالغة أي : فإيماناً قليلاً يؤمنون وهو إيمانهم ببعض
١٧٨
الكتاب والفاء لسببية اللعن لعدم الإيمان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٧٧
﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَـابٌ﴾ كائن ﴿مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾ وهو القرآن ووصفه بقوله من عند الله للتشريف ﴿مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ أي : موافق للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع.
قال ابن التمجيد المصدق به ما يختص ببعثة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما يدل عليها من العلامات والصفات لا الشرائع والأحكام لأن القرآن نسخ أكثرها ﴿وَكَانُوا مِن قَبْلُ﴾ أي : قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي : يستنصرون به على مشركي العرب وكفار مكة ويقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لأعدائهم قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا﴾ من الكتاب لأن معرفة من أنزل هو عليه معرفة له والفاء للدلالة على تعقيب مجيئه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدة منسية ﴿كَفَرُوا بِهِ﴾ حسداً وحرصاً على الرياسة وغيروا صفته وهو جواب لمّا الأولى والثانية تكرير للأولى ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَـافِرِينَ﴾ أي : عليهم وضعاً للظاهر موضع الضمير للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم والفاء للدلالة على ترتيب اللعنة على الكفر واللعنة في حق الكفار الطرد والإبعاد من الرحمة والكرامة والجنة على الإطلاق وفي حق المذنبين من المؤمنين الإبعاد عن الكرامة التي وعد بها من لا يكون في ذلك الذنب ومنه قوله عليه السلام :"من احتكر فهو ملعون" أي : من ادخر ما يشتريه وقت الغلاء ليبيعه وقت زيادة الغلاء فهو مطرود من درجة الأبرار لا من رحمة الغفار.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٧٩
واعلم أن الصفات المقتضية لِلَّعن ثلاث : الكفر والبدعة والفسق وله في كل واحدة ثلاث مراتب :
الأولى : اللعن بالوصف الأعم كقولك لعنة الله على الكافرين والمبتدعة أو الفسقة.
والثانية : اللعن بأوصاف أخص منه كقولك لعنة الله على اليهود والنصارى أو على القدرية والخوارج والروافض أو على الزناة والظلمة وأكل الربا وكل ذلك جائز.
والثالثة : اللعن على الشخص فإن كان ممن ثبت كفرهم شرعاً يجوز لعنه إن لم يكن فيه أذى على مسلم كقولك لعنة الله على فرعون وأبي جهل لأنه ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعاً وإن كان ممن لم يثبت شرعاً كلعنة زيد أو عمرو أو غيرهما بعينه فهذا فيه خطر لأن حال خاتمته غير معلوم وربما يسلم الكافر أو يتوب فيموت مقرباً عند الله فكيف يحكم بكونه ملعوناً ألا يرى أن وحشياً قتل عم النبي عليه السلام أعني حمزة رضي الله عنه ثم أسلم على يد النبي عليه السلام وبشره الله بالجنة وهذه حجة من لم يلعن يزيد لأنه يحتمل أن يتوب ويرجع عنه فمع هذا الاحتمال لا يلعن.
قال بعضهم : لعن يزيد على اشتهار كفره وتواتر فظاعة شره لما أنه كفر حين أمر بقتل الحسين رضي الله عنه ولما قال في الخمر :
فإن حرمت يوماً على دين أحمد
فخذها على دين المسيح ابن مريم واتفقوا على جواز اللعن على من قتل الحسين رضي الله عنه أو أمر به أو أجازه أو رضي به كما قال سعد الملة والدين التفتازاني الحق أن رضى يزيد بقتل الحسين واستبشاره وإهانته أهل بيت النبي عليه السلام مما تواتر معناه وإن كان تفاصيله آحاد فنحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه انتهى.
وكان الصاحب بن عباد يقول إذا شرب ماء بثلج :
١٧٩
قعقعة الثلج بماء عذب