﴿وَاشْرَبُوا﴾ أي : والحال أنهم قد أشربوا ﴿فِى قُلُوبِهِمُ﴾ بيان لمكان الإشراب كقوله : إنما يأكلون في بطونهم ناراً ﴿الْعِجْلَ﴾ أي : حب العجل على حذف المضاف وأشرب قلبه كذا أي : حل محل الشراب أو اختلط كما خلط الصبغ بالثوب وحقيقة أشربه كذا جعله شارباً لذلك فالمعنى جعلوا شاربين حب العجل نافذاً فيهم نفوذ الماء فيما يتغلغل فيه.
قال الراغب : من عاداتهم إذا أرادوا محاصرة حب أو بغض في القلب أن يستعيروا لها اسم الشراب إذ هو أبلغ مساغاً في البدن ولذلك قالت الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية.
﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي : بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قيل كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسماً أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري وجعل حلاوة عبادة العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم.
وفي القصص :
١٨٢
أن موسى عليه السلام لما خرج إلى قومه أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذرى في النهر فلم يبقَ نهر يجري يومئذٍ إلا وقع فيه منه شيء ثم قال لهم : اشربوا منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه ﴿قُلْ﴾ توبيخاً لحاضري اليهود أثر ما بين أحوال رؤسائهم الذين يقتدون في كل ما يأتون ويذرون ﴿بِئْسَمَا﴾ بئس شيئاً ﴿يَأْمُرُكُم بِهِ﴾ أي : بذلك الشيء ﴿إِيمَـانَكُمْ﴾ بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون والمخصوص بالذم محذوف أي : ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم وإضافة الإيمان إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة كما ينبىء عنه قوله تعالى :﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ بالتوراة وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعاً فقد علم أن من ادعى أنه مؤمن ينبغي أن يكون فعله مصدقاً لقوله وإلا لم يكن مؤمناً.
قال الجنيد قدس سره التوحيد الذي تفرد به الصوفية هو إفراد القدم عن الحدوث والخروج عن الأوطان وقطع المحارب وترك ما علم وما جهل وأن يكون الحق سبحانه مكان الجميع :
طالب توحيد را بايد قدم برلازدن
بعد ازان درعالم وحدت دم الا زدن
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما دخل على يعقوب النبي عليه السلام مبشر يوسف عليه السلام وبشره بحياته قال له يعقوب على أي : دين تركته؟ قال على دين الإسلام قال يعقوب عليه السلام : الآن قد تمت النعمة على يعقوب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨١
واعلم أن التوحيد أصل الأصول ومناط القبول ومكفر الخطايا ومستجلب العطايا ـ حكي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يحب إسلام دحية الكلبي لأنه كان تحت يده سبعمائة من أهل بيته وكانوا يسلمون بإسلامه وكان يقول :"اللهم ارزق دحية الكلبي الإسلام" فلما أراد دحية الإسلام أوحى الله إلى النبي عليه السلام بعد صلاة الفجر أن يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول إن دحية يدخل عليك الآن وكان في قلوب الأصحاب شيء من دحية من وقت الجاهلية فلما سمعوا ذلك كرهوا أن يمكنوا دحية فيما بينهم فلما علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم كره أن يقول لهم مكنوا دحية وكره أن يدخل دحية فيوحشوه فيبرد قلبه عن الإسلام فلما دخل دحية المسجد رفع النبي صلى الله عليه وسلّم رداءه عن ظهره وبسطه على الأرض بين يديه فقال دحية ههنا وأشار إلى ردائه فبكى دحية من كرم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورفع رداء وقبله ووضعه على رأسه وعينيه وقال ما شرائط الإسلام أعرضها علي فقال :"أن تقول أولاً لا إله إلا الله محمد رسول الله" فقال دحية ذلك ثم وقع البكاء على دحية فقال عليه السلام :"ما هذا البكاء وقد رزقت الإسلام" فقال : إني ارتكبت خطيئة وفاحشة كبيرة فقل لربك ما كفارته إن أمرني أن أقتل نفسي قتلتها وإن أمر أن أخرج من جميع ما لي خرجت فقال عليه السلام :"وما ذلك يا دحية" قال : كنت رجلاً من ملوك العرب واستنكفت أن تكون لي بنات لهن أزواج فقتلت سبعين من بناتي كلهن بيدي فتحير النبي عليه السلام في ذلك حتى نزل جبريل فقال :"يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول : قل لدحية وعزتي وجلالي إنك لما قلت لا إله إلا الله غفرت لك كفر ستين سنة وسيئاتك ستين سنة فكيف لا أغفر لك قتل البنات" فبكى عليه السلام وأصحابه
١٨٣
فقال عليه السلام :"إلهي غفرت لدحية قتل بناته بشهادة أن لا إله إلا الله مرة واحدة فكيف لا تغفر للمؤمنين بشهادات كثيرة وبقول صادق وبفعل خالص"، وفي "المثنوي" :
اذكروا الله كارهر اوباش نيست
ارجعي براي هرقلاش نيست
قال السعدي :
كر بمحشر خطاب قهر كند
انبيارا ه جاي معذرتست
رده ازروى لطف كوبردار
كاشقيارا اميد مغفر تست
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨١


الصفحة التالية
Icon