﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاخِرَةُ﴾ أي : الجنة ﴿عِندَ اللَّهِ﴾ ظرف للاستقرار في الخبر أعني لكم ﴿خَالِصَةً﴾ على الحالية من الدار أي : سالمة لكم خاصة بكم ﴿مِّن دُونِ النَّاسِ﴾ في محل النصب بخالصة أي : من دون محمد وأصحابه فاللام للعهد وتستعمل هذه اللفظة للاختصاص يقال هذا لي من دون الناس أي : أنا مختص به والمعنى إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ أي : أحبوه واسألوه بالقلب واللسان وقولوا : اللهم أمتنا فإن من أيقن بدخول الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من دار البوار وقرارة الأكدار ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني ﴿إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ في قولكم إن الجنة خاصة لكم فتمنوه وأصل التمني تقدير شيء في النفس وأكثر ما يستعمل فيما لا حقيقة له.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٤
﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ﴾ أي : الموت ﴿أَبَدَا﴾ أي : في جميع الزمان المستقبل لأن ابداً اسم لجميع مستقبل الزمان كقط لماضيه وفيه دليل على أن لن ليس للتأبيد لأنهم يتمنون الموت في الآخرة ولا يتمنونه في الدنيا ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبي عليه السلام والقرآن وتحريف التوراة وخص الأيدي بالذكر لأن الأعمال غالباً تكون بها وهي من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ومدار أكثر منافعه ولذا عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة ﴿وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ﴾ بهم وبما صدر عنهم وهو تهديد لهم ـ روي ـ أن اليهود لو تمنوا الموت لغص كل واحد منهم بريقه أي : لامتلأ فمات من ساعته ولما بقي على الأرض يهودي إلا مات فقوله ولن يتمنوه أبداً من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله ولن تفعلوا ولو وقع من أحد منهم تمنى موته لنقل واشتهر.
فإن قلت : إن التمني يكون بالقلب فلا يظهر لنا أنهم تمنوه أولاً.
قلت ليس التمني من أعمال القلوب إنما هو قول الإنسان بلسانه ليت لي كذا.
وعن نافع جلس إلينا يهودي يخاصمنا فقال : إن في كتابكم فتمنوا الموت وأنا أتمنى فما لي لا أموت فسمع ابن عمر رضي الله عنهما هذا فدخل بيته وأخذ السيف ثم خرج ففر اليهودي حين رآه فقال ابن عمر : أما والله لو أدركته لضربت عنقه توهم هذا الجاهل أنه لليهود في كل وقت إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندونه ويجحدون نبوته بعد أن عرفوه.
فإن قلت : إن المؤمنين أجمعوا على أن الجنة للمؤمنين دون غيرهم ثم ليس أحد منهم يتمنى الموت فكيف وجه الاحتجاج على اليهود بذلك؟ قلت : إن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والشرف والمرتبة عند الله ما جعلت اليهود ذلك لأنفسهم لأنهم ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن الجنة خالصة لهم والإنسان
١٨٤
لا يكره القدوم على حبيبه ولا يخاف انتقامه بالمصير إليه بل يرجو وصوله إلى محابه فقيل لهم : تمنوا ذلك فلما لم يتمنوه ظهر كذبهم في دعاويهم ولأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تمني الموت قال :"لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي" قال مقاتل :
لولا بناتي وسيئاتي
لذبت شوقاً إلى الممات فلا يلزمهم ما يلزم اليهود.
قال سهل بن عبد الله التستري قدس سره : لا يتمنى الموت إلا ثلاثة رجل جاهل بما بعد الموت أو رجل يفر من أقدار الله عليه أو مشتاق يحب لقاء الله.
قال في "المثنوي" :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٤
شد هواي مرك طوق صادقان
كه جهودانرا بد ان دم امتحان
روي عن صاحب "المثنوي" أنه لما ادنت وفاته تمثل له ملك الموت وقام عند الباب ولما رآه المولى قدس سره قال :
يشترآ يشترآ جان من
يك در حضرت سلطان من
قال بعض الملوك لأبي حازم : كيف القدوم على الله عز وجل؟ فقال أبو حازم أما قدوم الطائع على الله فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأما قدوم العاصي فكقدوم الآبق على سيده الغضبان.
قال في "المثنوي" :
انبيارا تنك آمد اين جهان
ون شهان رفتند اندر لامكانون مراسوي أجل عشق وهواست
نهى لا تلقوا بأيديكم مراستزانكه نهى ازدانه شيرين بود
تلخ را خود نهى حاجت كى شو


الصفحة التالية
Icon