واعلم أن الموت هو المصيبة العظمى والبلية الكبرى وأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره وقلة الفكر فيه وترك العمل له وأن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر كما قيل كفى بالموت واعظاً ومن ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ومنعه عن تمنيها في المستقبل وزهده فيما كان منها يؤمل ولكن القلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزيين الألفاظ وإلا ففي قوله عليه السلام "أكثروا ذكر هادم اللذات" وقوله تعالى :﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران : ١٨٥) ما يكفي السامع له ويشغل الناظر فيه، فعلى العاقل أن يسعى للموت بالاختيار قبل الموت بالاضطرار ويزكي نفسه عن سفساف الأخلاق.
قال السعدي قدس سره :
أي برادر وعاقبت خاكست
خاك شويش ازانكه خاك شوى
اللهم يسر لنا الطريق.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٤
﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ﴾ من الوجدان العقلي وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختص بما يقع بعد التجربة ونحوها واللام لام القسم أي : والله لتجدن اليهود يا محمد أحرص من الناس ﴿عَلَى حَيَواةٍ﴾ لا يتمنون الموت والتنكير للنوع وهي الحياة المخصوصة المتطاولة وهي حياتهم التي هم فيها لأنها نوع من مطلق الحياة ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل أحرص من الناس وأفرد المشركون بالذكر وإن كانوا من الناس لشدة حرصهم على الحياة.
وفيه توبيخ عظيم لأن الذين
١٨٥
أشركوا لا يؤمنون بعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ.
فإن قلت : لم زاد حرصهم على حرص المشركين.
قلت : لأنهم علموا لعلمهم بحالهم أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف أي : يريد ويتمنى ويحب أحد هؤلاء المشركين ﴿لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ حكاية لودادهم ولو فيه معنى التمني كأنه قيل ليتني أعمر وكان القياس لو أعمر إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله تعالى يود أحدهم كقولك حلف بالله ليفعلن ومحله النصب على أنه معمول يود إجراء له مجرى القول لأنه فعل قلبي والمعنى تمنى أحدهم أن يعطى البقاء والعمر ألف سنة وهي للمجوس، وخص هذا العدد لأنهم يقولون ذلك فيما بينهم عند العطاس والتحية عش ألف سنة، وألف نوروز، وألف مهرجان وهي بالعجمية "زي هزار سال" وصح إطلاق المشركين على المجوس لأنهم يقولون بالنور والظلمة ﴿وَمَا﴾ حجازية ﴿هُوَ﴾ أي : أحدهم اسم ما ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ خبر ما والباء زائدة والزحزحة التبعيد والإنجاء ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ من النار ﴿أَن يُعَمَّرَ﴾ فاعل مزحزحه أي : تعميره ﴿وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ البصير في كلام العرب العالم بكنه الشيء الخبير به أي : عليم بخفيات أعمالهم من الكفر والمعاصي لا يخفى عليه فهو مجازيهم بها لا محالة بالخزي والذل في الدنيا والعقوبة في العقبى وهذه الحياة العاجلة تنقضي سريعة وإن عاش المرء ألف سنة أو أزيد عليها فمن أحب طول العمل للصلاح فقد فاز قال عليه السلام :"طوبى لمن طال عمره وحسن عمله" ومن أحبه للفساد فقد ضل ولا ينجو مما يخاف فإن الموت يجيء البتة واجتمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ولا أجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك وكان مستعداً لذلك بعض الصالحين ينادي بالليل على سور المدينة الرحيل الرحيل فلما توفى فقد صوته أمير تلك المدينة فسأل عنه فقيل إنه مات فقال :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٤
ما زال يلهج بالرحيل وذكره
حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظاً متشمراً
ذا أهبة لم تلهه الآمالبأنك طبلت نمي كند بيدار
تومكر مرده نه درخوابي
توراغي نهاده درره باد
خانه در ممر سيلابي
فإصابة الموت حق وإن كان العيش طويلاً والعمر مديداً وهو ينزل بكل نفس راضية كانت أو كارهة.
روى شارح "الخطب" عن وهب بن منبه أنه قال : مر دانيال عليه السلام ببرية فسمع يا دانيال قفْ ترَ عجباً فلم ير شيئاً ثم نودي الثانية قال : فوقفت فإذا بيت يدعوني إلى نفسه فدخلت فإذا سرير مرصع بالدر والياقوت فإذا النداء من السرير اصعد يا دانيال ترَ عجباً فارتقيت السرير فإذا فراش من ذهب مشحون بالمسك والعنبر فإذا عليه شاب ميت كأنه نائم وإذا عليه من الحلي والحلل ما لا يوصف وفي يده اليسرى خاتم من ذهب وفوق رأسه تاج من ذهب وعلى منطقته سيف أشد خضرة من البقل فإذا النداء من السرير أن احمل هذا السيف واقرأ ما عليه قال : فإذا مكتوب عليه هذا سيف صمصام بن عوج بن عنق بن عاد بن إرم وإني عشت ألف عام وسبعمائة
١٨٦