عليه وسلّم تعالى عليه وسلم برأ الله سليمان عليه السلام من ذلك وأنزل في عذر سليمان واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـانُ﴾ بالسحر وعلمه يعني لم يكن ساحراً لأن الساحر كافر والتعرض لكونه كفراً للمبالغة في إظهار نزاهته عليه بالسلام وكذبه باهتيه بذلك ﴿وَلَـاكِنَّ الشَّيَـاطِينَ كَفَرُوا﴾ باستعمال السحر وتعليمه وتدوينه ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ أي : كفروا والحال أنهم يعلمونه إغواء وإضلالاً، روي أن السحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة إفهامهم ﴿وَمَا﴾ أي : ويعلمون الناس الذي ﴿أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ أي : ما ألهما وعلما وهو علم السحر أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه كان مؤمناً كما قيل :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩٠
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه†
وهذا كما إذا أتى عرافاً فسأله عن شيء ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز.
قال الإمام فخر الدين : كان الحكمة في إنزالهما أن السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما سمعوا بين الخلق وكان بسبب ذلك يشتبه الوحي النازل على الأنبياء فأنزلهما الله إلى الأرض ليعلما الناس كيفية السحر ليظهر بذلك الفرق بين كلام الله وكلام السحرة ﴿بِبَابِلَ﴾ الباء بمعنى في وهي متعلقة بانزل أو بمحذوف وقع حالاً من الملكين وهي بابل العراق أو بابل أرض الكوفة ومنع الصرف للعجمة والعلمية وأحسن ما قيل في تسميتها ببابل أن نوحاً عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي بنى قرية وسماها ثمانين فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداهما اللسان العربي وكان لا يفهم بعضهم من بعض كذا في "تفسير القرطبي".
﴿هَـارُوتَ وَمَـارُوتَ﴾ عطف بيان للملكين علمان لهما ومنع صرفها للعجمة والعلمية وما روى في قصتهما من أنهما شربا الخمر وسفكا الدم وزنيا وقتلا وسجدا للصنم فمما لا تعويل عليه لأن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقل ولعله من مقولة الأمثال والرموز التي قصد بها إرشاد اللبيب الأريب وبالترغيب وذلك لأن المراد بالملكين العقل النظري والعقل العملي والمرأة المسماة بالزهرة هي النفس الناطقة الطاهرة في أصل نشأتها وتعرضهما لها تعليمهما لها ما تستعد به في النشأة الآخرة وحملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى السفليات المدنسة لجوهرهما وصعودها إلى السماء بما تعلمت منها هو عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصافها ونصحها كذا ذكره وجوه القوم من المفسرين.
يقول الفقير جامع هذه المجالس الشريفة قد تصفحت كتب أرباب الخبر والبيان وأصحاب الشهود والعيان فوجدت عامتها مشحونة بذكر ما جرى من قصتهما وكيف يجوز الاتفاق من الجم الغفير على ما مداره رواية اليهود خصوصاً في مثل هذا الأمر الهائل فأقول وصف الملائكة بأنهم لا يعصون ولا يستكبرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ويفعلون ما يؤمرون دليل تصور العصيان منهم ولولا ذلك لما مدحوا به إذ لا يمدح أحد على الممتنع لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف على عكس حال البشر كما في "التيسير" فهذا يقتضي جواز الوقوع مع أن فيما روى في سبب نزولهما
١٩١
ما يزيل الأشكال قطعاً وهو أنهم لما عيروا بني آدم بقلة الأعمال وكثرة الذنوب في زمن إدريس عليه السلام قال الله تعالى لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا فقالوا : سبحانك ربنا ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال الله تعالى فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم فأهبطا بالتركيب البشري ففعلا ما فعلا وهذا ليس ببعيد إذ ليس مجرد هبوط الملك مما يقتضي العصيان وذلك ظاهر وإلا لظهر من جبريل وغيره ألا ترى أن إبليس له الشهوة والذرية مع أنه كان من الملائكة على أحد القولين لأنها مما حدثت بعد أن محى من ديوانهم فيجوز أن تحدث الشهوة في هاروت وماروت بعد أن أهبطا الأرض لاستلزام التركيب البشرى ذلك.
وقد قال في "آكام المرجان" : إن الله تعالى باين بين الملائكة والجن والإنس في الصورة والأشكال فإن قلب الله الملك إلى صورة الإنسان ظاهراً وباطناً خرج عن كونه ملكاً وكذلك لو قلب الشيطان إلى بنية الإنسان خرج بذلك عن كونه شيطاناً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩٠