﴿وَمَا هُم﴾ أي : ليس الساحرون ﴿بِضَآرِّينَ بِهِ﴾ أي : بما تعلموه واستعملوه من السحر ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ أي : أحداً ﴿إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الاستثناء مفرغ والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من ضمير ضارين أو من مفعوله وإن كان نكرة لاعتمادها على النفي أو الضمير المجرور في به أي : ما يضرون به أحداً إلا مقروناً بعلم الله وإرادته وقضائه لا بأمره لأنه لا يأمر بالكفر والاضرار والفحشاء ويقضي على الخلق بها فالساحر يسحر والله يكوّن فقد يحدث عند استعمالهم السحر فعلاً من أفعاله ابتلاء وقد لا يحدثه وكل ذلك بإرادته ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يحول بين المرء وقلبه
١٩٣
وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام وكل ذلك مدرك بالحس والمشاهدة وإنكاره معاندة وإن أردت التفصيل وحقيقة الحال فاستمع لما نتلو عليك من المقال وهو أن السحر إظهار أمر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة بمباشرة أعمال مخصوصة يجري فيه التعلم والتعليم وبهذين الاعتبارين يفارق المعجزة والكرامة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩٠
واختلف العلماء في حقيقة السحر بمعنى ثبوته في الخارج فذهب الجمهور إلى ثبوته فيه.
وقالت المعتزلة لا ثبوت له ولا وجود له في الخارج بل هو تمويه وتخييل ومجرد إراءة ما لا حقيقة له يرى الحبال حيات بمنزلة الشعوذة التي سببها خفة حركات اليد أو إخفاء وجه الحيلة وتمسكوا بقوله تعالى :﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ (طه : ٦٦) ولنا وجهان : الأول يدل على الجواز والثاني : يدل على الوقوع أما الأول فهو إمكان الأمر في نفسه وشمول قدرة الله فإنه الخالق وإنما الساحر فاعل وكاسب وأما الثاني فهو قوله تعالى :﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِه بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِه مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وفيه إشعار بأنه ثابت حقيقة ليس مجرد إراءة وتمويه وبأن المؤثر والخالق هو الله تعالى وحده وأما الشعوذة وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب آلات الهندسة وخفة اليد والاستعانة بخواص الأدوية والأحجار فإطلاق السحر عليها مجاز أو لما فيها من الدقة لأنه في الأصل عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ولذا يقال : سحر حلال وأكثر من يتعاطى السحر من الأنس النساء وخاصة في حال حيضهم والأرواح الخبيثة ترى غالباً للطبائع المغلوبة والنفوس الرذيلة وإن لم يكن لهم رياضة كالنساء والصبيان والمخنثين والإنسان إذا فسد نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويتلذذ به بل يعشق ذلك عشقاً يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله والشيطان خبيث فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم فيقضون بعض أغراضهم كمن يعطي رجلاً مالاً ليقتل من يريد قتله أو يعينه على فاحشة أو ينال منه فاحشة ولذلك يكتب السحرة والمعزمون في كثير من الأمور كلام الله تعالى بالنجاسة والدماء ويتقربون بالقرابين من حيوان ناطق وغير ناطق والبخور وترك الصلاة والصوم وإباحات الدماء ونكاح ذوات المحارم وإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك مما ليسفيه رضى فإذا قالوا كفراً أو كتبوه أو فعلوه إعانتهم الشياطين لأغراضهم أو بعضها إما بتغوير ماء وإما بأن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة وإما أن يأتيه بمال من أموال الناس كما يسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يذكر اسم الله عليه ويأتي به وإما غير ذلك من قتل أعدائهم أو أمراضهم أو جلب من يهوونه وكثيراً ما يتصور الشيطان بصورة الساحر ويقف بعرفات ليظن من يحسن به الظن أنه وقف بعرفات وقد زين لهم الشيطان أن هذا كرامات الصالحين وهو من تلبيس الشيطان فإن الله تعالى لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب وما فعلوه ليس بواجب ولا مستحب شرعاً بل هو منهي حرام ونعوذ بالله من اعتقاد ما هو حرام عبادة ولأهل الضلال الذين لهم عبادة على غير الوجه الشرعي مكاشفات أحياناً وتأثيرات يأوون كثيراً إلى مواضع الشياطين التي نهى عن الصلاة فيها كالحمام والمزبلة وأعطان الإبل وغير ذلك مما هو من مواضع النجاسات لأن الشياطين تنزل عليهم فيها وتخاطبهم ببعض
١٩٤
الأمور كما يخاطبون الكفار وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابدي الأصنام
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩٠