قال القرطبي : الجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى ﴿أَوْ نُنسِهَا﴾ إنساء الآية إذهابها من القلوب كما روي أن قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا البسملة فغدوا إلى النبي عليه السلام وأخبروه فقال صلى الله عليه وسلّم "تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها" روي أن المشركين أو اليهود قالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقول إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً كما أمر في حد الزنى بإيذائهما باللسان حيث قال :﴿فَـاَاذُوهُمَا﴾ (النساء : ١٦) ثم جعله منسوخاً وأمر بإمساكهن في البيوت حتى يتوفاهما الموت ثم جعله منسوخاً بقوله :﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ﴾ (النور : ٢) يريدون بذلك الطعن في الإسلام ليضعفوا عزيمة من أراد الدخول فيه فبين الله الحكمة في النسخ بهذه الآية والمعنى أن كل آية تذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معاً إلى بدل أو إلى غير بدل ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ أي : بآية هي خير ﴿مِّنْهَآ﴾ للعباد بحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة وليس المقصود أن آية خير من آية لأن كلام الله واحد وكله خير فلايتفاضل بعض الآيات على بعض في أنفسها من حيث أنه كلام الله ووحيه وكتابه بل التفاضل فيها إنما هو بحسب ما يحصل منها للعباد ﴿أَوْ مِثْلِهَآ﴾ في المنفعة والثواب فكل ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وما نسخ إلى الأشق فهو في الثواب أكثر أما الأول فكنسخ الاعتداد بحول ونقله إلى الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً وأما الثاني فكنسخ ترك القتال بإيجابه وقد يكون النسخ بمثل الأول لا أخف ولا أشق كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضاً وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب.
واعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى ويسمى الخطاب الشرعي ناسخاً تجوزاً في الإسناد بناء على أن النسخ يقع به والمنسوخ هو الحكم المزال والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة وهو المكلف والحكمة في النسخ أن الطبيب المباشر لإصلاح البدن يغير الأغذية والأدوية بحسب اختلاف الأمزجة والأزمنة كذلك الأنبياء المباشرون لإصلاح النفوس يغيرون الأعمال الشرعية والأحكام الخلقية التي هي للنفوس بمنزلة العقاقير والأغذية للأبدان فإن أغذية النفوس وأدويتها هي الأعمال الشرعية والأخلاق المرضية فيغيرها الشارع على حسب تغير مصالحها فكما أن الشيء يكون دواء للبدن في وقت ثم قد يكون داء في وقت آخر كذلك الأعمال قد تكون مصلحة في وقت ومفسدة في وقت وقس عليه حال المرشد والمسترشد فإن التربية على القاعدة التسليكية بحسب أحوال المشارب ولا يلقاها من المرشدين إلا ذو حظ عظيم قال في "المثنوي" :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٠٠
رمز ننسخ آية أو ننسها
نأت خيراً درعقب خي دان مهاهر شريعت راكه حق منسوخ كرد
أو كيا برد وعوض آورده ورد
اندرين شهر حوادث مير اوست
در ممالك مالك تدبير أو ست
آنكه داند دوخت أو داند دريد
هره رايفروخت نيكوثر خريد
٢٠١
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ الخطاب للنبي عليه السلام ومعنى الاستفهام تقرير أي : أنك تعلم ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ وبما هو خير.


الصفحة التالية
Icon