والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ (الأعراف : ٩٦).
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩
والثالثة : أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق عز وجل ويتبتل إليه بكليته وهو التقوى الحقيقية المأمور بها في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران : ١٠٢) وأقصى مراتب هذا النوع من التقوى ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم السلام حيث جمعوا رياستي النبوة والولاية وما عاقهم التعلق بعالم الأشباح عن العروج إلى عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية، وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فهداية العام بالإسلام وهداية الخاص بالإيقان والإحسان وهداية الأخص بكشف الحج ومشاهدة العيان.
وفي "التأويلات النجمية" المتقون هم الذين أوفوا بعهد الله من بعد ميثاقه وصلوا به ما أمر الله أن يوصل به من مأمورات الشرع ظاهراً وباطناً يدل على هذا قوله تعالى :﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (البقرة : ٤٠) إلى قوله :﴿وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ﴾ (البقرة : ٤١) أي : إذا أنتم أقررتم بربوبيتي بقولكم بلى يوم الميثاق أوفوا بعهدي الذي عاهدتموني عليه وهو العبودية الخالصة لي أوف بعهدكم الذي عاهدتكم عليه وهو الهداية إلي.
وفي "الرسالة القشيرية" والمتقي مثل ابن سيرين كان له أربعون حباً سمناً، فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أي حب؟ أخرجتها فقال : لا أدري فصبها كلها.
ومثل أبي يزيد البسطامي اشترى بهمذان جانباً من حب القرطم فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين فرجع إلى همذان ووضع النملتين ـ وحكي أن أبا حنيفة رحمه الله ـ كان لا يجلس في ظل شجرة غريمه ويقول في الخبر (كل قرض جر نفعاً فهو ربا).
وقيل : إن أبا يزيد غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له فقال له : نعلق الثوب في جدار الكروم فقال : لا نضرب الوتد في جدار الناس فقال : نعلقه في الشجر فقال : إنه يكسر الأغصان فقال : نبسطه على الأرض فقال : إنه علف الدواب لا نستره عنها فولى ظهره حتى جف جانب ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر.
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ الجملة صفة مقيدة للمتقين إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي مترتبة عليه ترتب التحلية على التخلية والتصوير على التصقيل وموضحة إن فسر بما يعم فعل الطاعة وترك المعصية لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالباً ألا يرى قوله تعالى :﴿اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ﴾ (العنكبوت : ٤٥) وقوله عليه السلام :"الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام والإيمان هو التصديق بالقلب" لأن المصدق يؤمن المصدق أي : يجعله آمناً من التكذيب أو يؤمن نفسه من العذاب بفعله والله تعالى مؤمن لأنه يؤمن عباده من عذابه بفضله واستعماله بالباء ههنا لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق على الوثوق فإن الواثق يصير ذا أمن وطمأنينة.
قال في "الكواشي" : الإيمان في الشريعة هو الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان والإسلام الخضوع والانقياد فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً إذا
٣١
لم يكن معه تصديق فقد يكون الرجل مسلماً ظاهرة غير مصدق باطناً ولا يكون مصدقاً باطناً غير منقاد ظاهراً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩
قال المولى أبو السعود رحمه الله في "تفسيره" هو في الشرع : لا يتحقق بدون التصديق بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعض والجزاء ونظائرها وهل هو كاف في ذلك أو لا بد من انضمام الإقرار إليه للتمكن منه؟ الأول : رأى الشيخ الأشعري ومن تابعه، والثاني : مذهب أبي حنيفة رحمه الله ومن تابعه وهو الحق فإنه جعلهما جزأين له خلا أن الإقرار ركن محتمل للسقوط بعذر كما عند الإكراه وهو مجموع ثلاثة أمور إعتقاد الحق والإقرار به والعمل بموجبه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج فمن أخل بالإعتقاد وحده فهو منافق ومن أخل بالإقرار فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقاً عندنا وكافر عند الخوارج وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة.


الصفحة التالية
Icon