والغيب مصدر سمي به الغائب توسعاً كقولهم للزائر : زور، وهو ما غاب عن الحس والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو الذي أريد بقوله سبحانه :﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ﴾ (الأنعام : ٥٩) وقسم نصب عليه دليل كالصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع واليوم الآخر وأحواله من البعض والنشور والحساب والجزاء وهو المراد ههنا.
فالباء صلة الإيمان إما بتضمينه معنى الاعتراف أو بجعله مجازاً عن الوثوق وهو واقع موقع المفعول به وإن جعلت الغيب مصدراً على حاله كالغيبة فالباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من الفاعل أي : يؤمنون ملتبسين بالغيبة، أما عن المؤمن به أي : غائبين عن النبي صلى الله عليه وسلّم غير مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة ويدل عليه أنه قال حارث بن نغير لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : نحن نحتسب لكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد صلى الله عليه وسلّم وصحبته فقال عبد الله : ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه وإن أفضل الإيمان إيمان بالغيب ثم قرأ عبد الله :﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ كذا في تفسير "أبي الليث"، وأما عن الناس أي : غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ (البقرة : ١٤) وقيل المراد بالغيب القلب لأنه مستور والمعنى : يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فالباء حينئذٍ للآلة.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد منا فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله عليه السلام وركبته تمس ركبته فقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "إن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" فقال : صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه ثم قال : فما الإيمان؟ قال :"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره" فقال : صدقت ثم قال : فما الإحسان؟ قال :"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال : صدقت، ثم قال : فأخبرني عن الساعة؟ فقال :"ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال : صدقت قال : فأخبرني عن إماراتها؟ قال :"أن تلد
٣٢
الأمة ربتها وأن ترى العراة الحفاة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" قال : صدقت.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩
ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يا عمر هل تدري من الرجل" قلت : الله ورسوله أعلم قال :"ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه".
وفي "التأويلات النجمية" ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ أي : بنور غيبي من الله في قلوبهم نظروا في قول محمد صلى الله عليه وسلّم فشاهدوا صدق قوله فآمنوا به كما قال عليه السلام :"المؤمن ينظر بنور الله".
واعلم أن الغيب غيبان : غيب غاب عنك، وغيب غبت عنه، فالذي غاب عنك عالم الأرواح فإنه قد كان حاضراً حين كنت فيه بالروح وكذرة وجودك في عهد ألست بربكم واستماع خطاب الحق ومطالعة آثار الربوبية وشهود الملائكة وتعارف الأرواح من الأنبياء والأولياء وغيرهم فغاب عنك إذ تعلقت بالقالب ونظرت بالحواس الخمس أي : بالمحسوسات من عالم الأجسام وأما الغيب الذي غبت عنه فغيب الغيب وهو حضرة الربوبية قد غبت عنه بالوجود وما غاب عنك بالوجود وهو معكم أينما كنتم أنت بعيد منه وهو قريب منك كما قال :﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ انتهى كلام الشيخ نجم الدين قدس سره قال الشيخ سعدى :
دوست نزديكتر ازمن بمنست
وين عجبتركه من ازوى دورم
ه كنم باكه توان كفت كه او
در كنار من ومن مهجورم
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩