تعظيم الحق بأنه أعظم من كل شيء في قلب العبد طلباً ومحبة وعظماً وعزة ومقارنة النية مع التكبير إشارة إلى أن صدق النية في الطلب ينبغي أن يكون مقروناً بتكبير الحق وتعظيمه في الطلب عن غيره فلا تطلب منه إلا هو فإن من طلب غيره فقد كبر وعظم ذلك المطلوب لا الله تعالى فلا تجوز صلاته حقيقة كما لا تجوز صلاته صورة إلا بتكبير الله فإن قال الدنيا أكبر والعقبى أكبر لا يجوز حتى يقول الله أكبر فكذلك في الحقيقة وفي وضع اليمنى على اليسرى ووضعهما على الصدر إشارة إلى إقامة رسم العبودية بين يدي مالكه وحفظ القلب عن محبة ما سواه وفي افتتاح القراءة بوجهت إشارة إلى توجهه للحق خالصاً عن شرك طلبه غير الحق وفي وجوب الفاتحة وقراءتها وعدم جواز الصلاة بدونها إشارة إلى حقيقة تعرض العبد في الطلب لنفحات ألطاف الربوبية بالحمد والثناء والشكر لرب العالمين وطلب الهداية وهي الجذبات الإلهية التي توازي كل جذبة منها عمل الثقلين وتقرب العبد بنصف الصلاة المقسومة بين العبد والرب نصفين والقيام والركوع والسجود إشارة إلى رجوعه إلى عالم الأرواح ومسكن الغيب كما جاء منه فأول تعلقه بهذا العالم كان بالنباتية ثم بالحيوانية ثم بالإنسانية فالقيام من خصائص الإنسان والركوع من خصائص الحيوان والسجود من خصائص النبات كما قال تعالى :﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ (الرحمن : ٦) فللعبد في كل مرتبة من هذه المراتب ربح وخسران والحكمة في تعلق الروح العلوى النوراني بالجسد السفلي الظلماني كان هذا الربح لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام :"خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم" ليربح الروح في كل مرتبة من مراتب السفليات فائدة لم توجد في مراتب العلويات وإن كان قد ابتلى أولاً ببلاء الخسران كما قال تعالى :﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ (العصر : ١ ـ ٢ ـ ٣) الآية فبنور الإيمان والعمل الصالح يتخلص العبد من بلاء خسران المراتب السفلية ويفوز بربحها فبالقيام في الصلاة بالتذلل وتواضع العبودية يتخلص من خسران التكبر والتجبر الذي من خاصته أن يتكامل في الإنسان ويظهر منه
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩
﴿أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى﴾ (النازعات : ٢٤) ويفوز بربح علو الهمة الإنسانية التي إذا كملت في الإنسان لا يلتفت إلى الكون في طلب المكون كما كان حال النبي عليه السلام ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم : ١٦ ـ ١٧ ـ ١٨) فإذا تخلص من التكبر الإنساني يرجع من القيام الإنساني إلى الركوع الحيواني بالانكسار والخضوع فبالركوع يتخلص من خسران الصفة الحيوانية ويفوز بربح تحمل الأذى والحلم ثم يرجع من الركوع الحيواني إلى السجود النباتي فبالسجود يتخلص من خسران الذلة النباتية والدناءة السفلية ويفوز بربح الخشوع الذي يتضمن الفلاح الأبدي والفوز العظيم السرمدي كما قال تعالى :﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ (المؤمنون : ٢) فالخشوع أكمل آلات العروج في العبودية وقد حصل في تعلقه بالجسد النيراني وليس لأحد من العالمين هذا الخشوع وبهذا السر أبت الملائكة وغيرهم أن يحملن الأمانة فأشفقن منها لأن الاباء ضد الخشوع وحملها الإنسان باستعداد الخشوع وكمل خشوعه بالسجود إذ هو غاية التذلل في صورة الإنسان وهيئة الصلاة ونهاية قطع تعلق الروح من العالم السفلي وعروجه إلى العالم الروحاني العلوي برجوعه من مراتب الإنسانية
٣٧
والحيوانية والنباتية وكمال التعرض لنفحات ألطاف الحق وبذل المجهود وإنفاق الموجود من أنانية الوجود الذي هو من شرط المصلين كقوله تعالى :﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ﴾ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ الرزق في اللغة العطاء.
وفي العرف ما ينتفع به الحيوان وهو تناول الحلال والحرام عند أهل السنة والقرينة تخصصه ههنا بالحلال لأن المقام مقام المدح وتقديم المفعول للاهتمام به والمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه وصيغة الجمع في رزقنا مع أنه تعالى واحد لا شريك له لأنه خطاب الملوك والله تعالى مالك الملك وملك الملوك والمعهود من كلام الملوك أربعة أوجه : الإخبار على لفظ الواحد نحو فعلت كذا وعلى لفظ الجمع فعلنا كذا وعلى ما لم يسم فاعله رسم لكم كذا وإضافة الفعل إلى اسمه على وجه المغايبة أمركم سلطانكم بكذا والقرآن نزل بلغة العرب فجمع الله فيه هذه الوجوه كلها فيما أخبر به عن نفسه فقال تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩