﴿ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (المدثر : ١١) على صيغة الواحد وقال تعالى :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر : ١) على صيغة الجمع وقال فيما لم يسم فاعله :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ (البقرة : ١٨٣) وأمثاله وقال في "المغايبة" :﴿اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ﴾ (الروم : ٥٤) وأمثاله كذا في "التيسير".
ويقول الفقير جامع هذه اللطائف : سمعت من شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة إن الإفراد بالنظر إلى الذات والجمع بالنظر إلى الأسماء والصفات ولا ينافي كثرة الأسماء والصفات وحدة الذات إذ كل منها راجع إليها والإنفاق والإنفاد أخوان خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول والمراد بهذا الإنفاق الصرف إلى سبيل الخير فرضاً كان أو نفلاً ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها وأختها وهي الصلاة وقد جوز أن يراد به الإنفاق من جميع المعادن التي منحهم الله إياها من النعم الظاهرة والباطنة ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلّم "إن علماً لا ينال به ككنز لا ينفق منه" وإليه ذهب من قال في تفسير الآية ومما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون والأظهر أن يقال المراد من النفقة هي الزكاة وزكاة كل شيء من جنسه كما روي عن أنس بن مالك (زكاة الدار أن يتخذ فيها بيت للضيافة) كما في "الرسالة القشيرية".
قالوا : إنفاق أهل الشريعة من حيث الأموال وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال :
قال المولى جلال الدين قدس سره :
آن درم دادن سخى را لايق است
جان سر دن خود سخاي عاشق است
وإنفاق الأغنياء من أموالهم لا يدخرونها عن أهل الحاجة وإنفاق العابدين من نفوسهم لا يدخرونها عن وظائف الخدمة وإنفاق العارفين من قلوبهم لا يدخرونها عن حقائق المراقبة وإنفاق المحبين من أرواحهم لا يدخرونها عن مجاري الأقضية.
والأقصر أن يقال إنفاق الأغنياء إخراج المال من الجيب وإنفاق الفقراء إخراج الأغيار من القلب ثم ذكر في الآية الإيمان وهو بالقلب ثم الصلاة وهي بالبدن ثم الإنفاق وهو بالمال وهو مجموع كل العبادات ففي الإيمان النجاة وفي الصلاة المناجاة وفي الإنفاق الدرجات وفي الإيمان البشارة وفي الصلاة الكفارة وفي الإنفاق الطهارة وفي الإيمان العزة وفي الصلاة القربة وفي الإنفاق الزيادة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩
وقيل : ذكر في هذه الآية أربعة أشياء : التقوى، والإيمان، والغيب، وإقامة الصلاة والإنفاق وهي
٣٨
صفة الخلفاء الراشدين الأربعة ففي الآية بيان فضلهم التقوى لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى :﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ (الليل : ٥ ـ ٦) والإيمان بالغيب لعمر الفاروق رضي الله عنه قال الله تعالى :﴿حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال : ٦٤) وإقامة الصلاة لعثمان ذي النورين رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى :﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآااِمًا﴾ (الزمر : ٩) الآية والإنفاق لعلي المرتضى رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى :﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ (البقرة : ٢٧٤) الآية، وعند القوم أي : الصوفية السخاء هو الرتبة الأولى ثم الجود بعده ثم الإيثار فمن أعطى البعث وأبقى البعث فهو صاحب سخاء ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود والذي قاسى الضرورة وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب إيثار وبالجملة في الإنفاق فضائل كثيرة.
وروي عن أبي عبد الله الحارث الرازي أنه قال : أوحى الله إلى بعض أنبيائه (أني قضيت عمر فلان نصفه بالفقر ونصفه بالغنى فخيره حتى أقدم له أيهما شاء) فدعا نبي الله عليه السلام الرجل وأخبره فقال حتى أشاور زوجتي فقالت زوجته : اختر الغنى حتى يكون هو الأول فقال لها : إن الفقر بعد الغنى صعب شديد والغنى بعد الفقر طيب لذيذ فقالت : لا بل أطعني في هذا فرجع إلى النبي عليه السلام فقال : أختار نصف عمري الذي قضى لي فيه بالغنى أن يقدم فوسع الله عليه الدنيا وفتح عليه باب الغنى فقالت له امرأته : إن أردت أن تبقى هذه النعمة فاستعمل السخاء مع خلق ربك فكان إذا اتخذ لنفسه ثوباً اتخذ لفقير ثوباً مثله فلما تم نصف عمره الذي قضى له فيه بالغنى أوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان (إني كنت قضيت نصف عمره بالفقر ونصفه بالغنى لكني وجدته شاكراً لنعمائي والشكر يستوجب المزيد فبشره أني قضيت باقي عمره بالغنى)، قال المولى جلال الدين قدس سره :
هر كه كادر كردد انبارش تهى
ليكش اندر مزرعه باشد بهى
وانكه در انبار ماند وصرفه كرد
اسش وموش وحوادثها ش خورد
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩
قال الحافظ :
احوال كنج قارون كأيام داد برباد
باغنه باز كوييد تازر تهان ندارد


الصفحة التالية
Icon