وفي "التأويلات النجمية" ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي : من أوصاف الوجود يبذلون بحق النصف المقسوم من الصلاة بين العبد والرب فإذا بلغ السيل زباه والتعرض منتهاه أدركته العناية الأزلية بنفحات ألطافه وهداه إلى درجات قرباته فكما كان جذبة الحق للنبي عليه السلام في صورة خطاب (ادن) فجذبة الحق للمؤمن تكون في صورة خطاب ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب﴾ (العلق : ١٩) ففي التشهد بعد السجود إشارة إلى الخلاص من حجب الأنانية والوصل إلى سهود جمال الحق بجذبات الربانية ثم بالتحيات يراقب رسول العباد في الرجوع إلى حضرة الملوك بمراسم تحفة الثناء والتحنن إلى اللقاء وفي التسليم عن اليمين وعن الشمال إشارة إلى السلام على الدارين وعلى كل داع جاهل يدعوه عن اليمين إلى نعيم الجنات أو عن الشمال إلى اللذات والشهوات وهو في مقامات الإجابات والمناجاة ودرجات القربات مستغرق في بحر الكرامات مقيد بقيد الجذبات كما قال تعالى :﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان : ٦٣) فأهل الصورة بالسلام يخرجون من إقامة
٣٩
الصلاة وأهل الحقيقة بالسلام يدخلون في إدامة الصلاة كقوله :﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَاِئمُونَ﴾ (المعارج : ٢٣) فقوم يقيمون الصلاة والصلاة تحفظهم كما قال تعالى :﴿اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ (العنكبوت : ٤٥) فهم ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ بما لهم في الغيب معد بقوله :"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فعلموا أن ما هو المعد لهم لا تدركه الأبصار ولا الآذان ولا القلوب التي رزقهم الله وليس بينهم وبين ما هو المعد لهم حجاب إلا وجودهم فاشتاقوا إلى نار تحرق عليهم حجاب وجودهم فآنسوا من جانب طور صلاتهم ناراً لأن صلاتهم بمثابة الطور لهم للمناجاة فلما أتاها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين فجعلوا ما رزقهم الله من أوصاف الوجود حطب نار الصلاة ينفقونه عليها ويقيمون الصلاة حتى نودوا أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ومن لم يكن له نار تحرق في نار جهنم الصلاة حطب وجوده ووجود كل من يعبد من دون الله فلا بد له من الحرقة بنار جهنم الآخرة فالفرق بين النارين أن نار الصلاة تحرق لب وجودهم الذي هم به محجوبون عن الله تعالى ويبقى جلد وجودهم وهو الصورة والحجاب من لب الوجود لا من جلده وهذا سر عظيم لا يطلع عليه إلا أولوا الألباب المحترقة ونار جهنم تحرق جلودهم ويبقى لب وجودهم لا جرم لا ترفع الحجب عنهم كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون لأن اللب باق والجلد وإن احترق بقي اللب كما قال تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ (النساء : ٥٦) فمن أنفق لب الوجود وما تبدى منه له الوجود من المال والجاه في سبيل نار الصلاة والقربة إلى الله فينفق الله عليه وجود نار الصلاة كما قال لحبيبه عليه السلام :(أنفق عليك) فبقي بنار الصلاة بلا أنانية الوجود فتكون صلاته دائمة بنور نار الصلاة يؤمن بما أنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ نزلت في مؤمني أهل الكتاب وما قبله إلى قوله تعالى :﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ نزلت في مؤمني العرب ﴿بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ هو القرآن بأسره والشريعة عن آخرها والتعبير عن إنزاله بالماضي مع كون بعضه مترقباً حينئذٍ لتغليب المحقق على المقدر أو لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع كما في قوله تعالى :﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى﴾ (الأحقاف : ٣٠) مع أن الجن ما كانوا سمعوا الكتاب جميعاً ولا كان الجمع إذ ذاك نازلاً.
وفي "الكواشي" لأن القرآن شيء واحد في الحكم ولأن المؤمن ببعضه مؤمن بكله انتهى ثم معنى ما أنزل إليك هو القرآن الذي يتلى والوحي الذي لا يتلى فالمتلو هو هذه الصورة والآيات وغير المتلو ما بين النبي عليه السلام من أعداد الركعات ونصب الزكوات وحدود الجنايات قال تعالى :﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى﴾ (النجم : ٣ ـ ٤) والإنزال في هذه الآية بمعنى الوحي ويكون بمعنى الإعلاء وهو النقل من الأسفل إلى الأعلى وإن حمل على الإنزال الذي هو من العلو إلى السفل فمعناه إنزال جبريل لتبليغه كما قال تعالى :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ﴾ (الشعراء : ١٩٣) يعني : أن الإنزال نقل الشيء من أعلى إلى أسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحقوقه الذوات الحاملة لها فنزول ما عدا الصحف من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله أعلم بأن يتلقاها الملك من جنابه عز وجل تلقياً روحانياً أو يحفظها من اللوح
٤٠


الصفحة التالية
Icon