قال العلماء : كل ما وقع في القرآن ألم تر ولم يعاينه النبي عليه السلام فهو بهذا المعنى، وفي "التيسير" : وتحقيقه اعلم ذلك، وفي "الكواشي" : معناه الوجوب لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أو على الاستفهام صار تقريراً أو إيجاباً والمعنى قد علمت خبر الذين خرجوا الآية، قال ابن التمجيد في "حواشيه" : لفظ ألم تر قد يخاطب به من تقدم علمه بالقصة وقد يخاطب به من لم يتقدم علمه بها فإنه قد يقول الرجل لآخر ألم تر إلى فلان أي : شيء قال يريد تعريفه ابتداء فالمخاطبون به ههنا أما من سمعها وعلمها قبل الخطاب به من أهل التواريخ فذكرهم وعجبهم وأما من لم يسمعها فعرفهم وعجبهم وقيل : الخطاب عام لكل من يتأتى منه الرؤية دلالة على شيوع القصة وشهرتها بحيث ينبغي لكل أحد أن يعلمها أو يبصرها ويتعجب منها ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ جمع ألف الذي هو من جملة أسماء العدد واختلفوا في عدد مبلغهم والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة فلا يقال في عشرة آلاف فما دونها ألوف ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ مفعول له أي : خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ﴾ على لسان ملك وإنما أسند إليه تعالى تخويفاً وتهويلاً لأن قول القادر القهار والملك الجبار له شأن ﴿مُوتُوا﴾ التقدير فماتوا لاقتضاء قوله ثم أحياهم ذلك التقدير لأن الإحياء يستدعي سبق الموت ﴿ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ﴾ أي : أعادهم أحياء ليستوفوا بقية أعمارهم وليعلموا أن لا فرار من القدر.
قال ابن العربي عقوبة لهم ثم أحياهم وميتة العقوبة بعدها حياة للاعتبار وميتة الأجل لا حياة بعدها.
وعن الحسن أيضاً أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٦
وقصة هؤلاء ما ذكره أكثر أهل التفسير أنهم كانوا قوماً من بني إسرائيل بقرية من قرى واسط يقال لها داوودان وقع بها الطاعون فذهب أشرافهم وأغنياؤهم وأقام سفلتهم وفقراءهم فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا كما بقوا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها فوقع الطاعون من العام القابل فهرب عامة أهلها فخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح بين جبلين فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وملك آخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً من غير علة بأمر الله ومشيئته وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتت عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم أي : أنتنت فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فأحدقوا حولهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له حزقيل بن يوزى ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وذلك
٣٧٧
أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل كان يوشع بن نون ثم كالب بن يوحنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزاً فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت فوهبه الله لها.
وقال الحسن : هو ذو الكفل وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه كفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل وقال لهم : اذهبوا فإني إن قتلت كان خيراً لكم من أن تقتلوا جميعاً فلما جاء اليهود وسألوا ذا الكفل عن الأنبياء السبعين قال : إنهم ذهبوا ولا أدري أين هم ومنع الله تعالى ذا الكفل من اليهود بفضله وكرمه فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم لكثرة ما يرى فجعل يتفكر فيهم متعجباً فأوحى الله إليه أتريد أن أريك آية قال : نعم فقال الله ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت من أعلى الوادي وأدناه حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله إليه ناد أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا وبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت فبقيت فيهم بقايا من ريح النتن حتى أنه بقي في أولاد ذلك السبط من اليهود إلى اليوم ثم إنهم رجعوا إلى بلادهم وقومهم وعاشوا دهراً سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلا عاد دسماً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي ثبتت لهم وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض لأسباب الشهادة وحثهم على التوكل والاستسلام وأن الموت حيث لم يكن منه بد ولم ينفع منه المفر فأولى أن يكون في سبيل الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ﴾ عظيم ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ قاطبة أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ فضله كما ينبغي لعجز بعضهم وكفر بعضهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٦