﴿وَقَـاتِلُوا﴾ الخطاب لهذه الأمة وهو معطوف على مقدر تقديره فأطيعوا وقاتلوا ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لإعلاء دينه متيقنين أن الفرار من الموت غير مخلص وأن القدر واقع فلا تحرموا من أحد الحظين إما النصر والثواب وإما الموت في سبيل الله الملك الوهاب ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ يسمع مقالة السابقين إلى الجهاد من ترغيب الغير فيه ومقالة المتخلفين عنه من تنفير الغير ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمرونه في أنفسهم يعلم أن خلف المتخلف لأي غرض وأن جهاد المجاهد لأي سبب وأنه لأجل الدين أو الدنيا وهو من وراء الجزاء ثم إن قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ رد لتقبيح حال هؤلاء الذين خرجوا وقد جعل الله جزاء خروجهم الموت والخيبة في رجائهم الخلاص وكل ذلك يدل على كراهية الفرار فثبت بهذه الآية فضيلة القرار وفائدته وفي الحديث "الفار من الطاعون كالفار من الزحف" وهذا الحديث يدل على أن النهي عن الخروج للتحريم وأنه من الكبائر.
قيل : إن عبد الملك هرب من الطاعون فركب ليلاً وأخرج غلاماً معه فكان ينام على دابته فقال للغلام : حدثني فقال : من أنا حتى أحدثك؟ فقال : على كل حال حدث حديثاً سمعته فقال : بلغني أن ثعلباً كان يخدم أسداً ليحميه ويمنعه مما يريده فكان يحميه فرأى الثعلب عقاباً فلجأ إلى الأسد فأقعده على ظهره فانقض العقاب واختلسه فصاح الثعلب يا أبا الحارث أغثني واذكر عهدك لي فقال : إنما أقدر على منعك من أهل الأرض فأما أهل السماء فلا سبيل إليهم فقال عبد الملك : وعظتني وأحسنت وانصرف ورضي بالقضاء.
٣٧٨
قال السعدي قدس سره :
قضا كشتي آنجاكه خواهد برد
وكرنا خدا جامه برثن درد
در آبى كه يدا نباشد كنار
غرور شناور نيايد بكار
واعلم أن ما كان من القضاء حتماً مقضياً لا ينفعه شيء كما قال عليه السلام :"الحذر لا ينفع من القدر" وأما المعلق فتنفعه الصدقة وأمثالها كما قال عليه السلام :"الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار" قال بعض المحققين : إن المقدرات على ضربين ضرب يختص بالكليات وضرب يختص بالجزئيات التفصيلية فالكليات المختصة بالإنسان ما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها محصورة في أربعة أشياء العمر والرزق والأجل والسعادة أو الشقاوة وهي لا تقبل التغير فالدعاء فيها لا يفيد كصلة الرحم إلا بطريق الفرض بمعنى أن لصلة الرحم مثلاً من الأثر في الخير ما لو أمكن أن يبسط في رزق الواصل ويؤخر في أجله بها لكان ذلك ويجوز فرض المحال إذا تعلق بذلك حكمة قال تعالى :﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ﴾ (الزخرف : ٨١) وأما الجزئيات ولوازمها التفصيلية فقد يكون ظهور بعضها وحصوله للإنسان متوقفاً على أسباب وشروط ربما كان الدعاء أو الكسب والسعي والتعمد من جملتها بمعنى أنه لم يقدر حصوله بدون ذلك الشرط.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٧٨
ـ حكي ـ أن قصاراً مر على عيسى عليه السلام مع جماعة من الحواريين فقال لهم عيسى : احضروا جنازة هذا الرجل وقت الظهر فلم يمت فنزل جبريل فقال : ألم تخبرني بموت هذا القصار فقال : نعم ولكن تصدق بعد ذلك بثلاثة أرغفة فنجا من الموت وقد سبق منا في الجزء الأول عند قوله تعالى :﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (البقرة : ٥٩) ما يتعلق بالطاعون والفرار منه فليرجع إليه.
قال الإمام القشيري : في قوله تعالى :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية يعني إن مسكم ألم فتصاعد منكم أنين فاعلموا أن الله سميع بأنينكم عليم بأحوالكم والآية توجب عليهم تسهيل ما يقاسونه من الألم قال قائلهم :
إذا ما تمنى الناس روحاً وراحة
تمنيت أن أشكو إليك وتسمع انتهى كلامه قدس سره اللهم اجعلنا من الذين يفرون إلى جنابك ويميلون.
﴿مِّنْ﴾ استفهام للتحريض على التصدق مبتدأ ﴿ذَا﴾ إشارة إلى المقرض خبر المبتدأ أي : من هذا ﴿الَّذِى﴾ صفة ذا أو بدل منه ﴿يُقْرِضُ اللَّهَ﴾ أصل القرض القطع سمي به لأن المعطي يقرضه أي : يقطعه من ماله فيدفعه إليه ليرجع إليه مثله من الثواب وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه ﴿قَرْضًا﴾ مصدر ليقرض بمعنى إقراض كقوله تعالى :﴿أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا﴾ (نوح : ١٧) أي : إقراضاً ﴿حَسَنًا﴾ أي : مقروناً بالإخلاص وطيب النفس ويجوز أن يكون القرض بمعنى المقرض أي : بمعنى المفعول على أنه مفعول ثان ليقرض وحسنه أن يكون حلالاً صافياً عن شوب حق الغير به.
وقيل : القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله ومن أنواع القرض قول الرجل سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر ﴿فَيُضَـاعِفَه لَهُ﴾ منصوب بإضمار إن عطفاً على المصدر المفهوم من يقرض الله في المعنى فيكون مصدراً معطوفاً على مصدر تقديره من ذا الذي يكون منه إقراض فمضاعفة من الله أو منصوب على جواب الاستفهام في المعنى لأن الاستفهام
٣٧٩