والثانية : شيء من لطائف صنع الحق يلقي على لسان المحدث الحكمة كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء مع ترويح الأسرار وكشف السر.
والثالثة : هي التي أنزلت على قلب النبي عليه السلام وقلوب المؤمنين وهي شيء يجمع نوراً وقوة وروحاً يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين كما قال تعالى :﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الفتح : ٢٦) وقال بعضهم : التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وذكر الله الذي تطمئن إليه القلوب وإتيانه تصيير قلبه مقر العلم والوقار بعد أن لم يكن كذلك ﴿وَبَقِيَّةٌ﴾ كائنة ﴿مِمَّآ﴾ من للتبعيض ﴿تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَـارُونَ﴾ هما رضاض الألواح وعصا موسى من آس الجنة وثيابه ونعلاه وعمامة هارون وشيء من التوراة وخاتم سليمان وقفيز من المن وهو الترنجبين الذي كان ينزل على بني إسرائيل ويأكلونه في أرض التيه.
وآلهما أنفسهما والآل مقحم أو أنباؤهما أو اتباعهما ﴿تَحْمِلُهُ الْمَلَـائِكَةُ﴾ حال من التابوت أي إن آية ملكه إتيانه حال كونه محمولاً للملائكة أو استئناف كأنه قيل : كيف يأتي؟ فقيل : تحمله الملائكة ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة في الروايتين بل نزل من السماء إلى الأرض بنفسه والملائكة كانوا يحفظونه في الرواية الأولى وأتى به على العجلة وعلى الثورين بسوق الملائكة على الرواية الأخيرة وإنما أضيف الحمل في القولين جميعاً إلى الملائكة لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله بل كان الحامل غيره كما يقول القائل : حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق وإن كان الحامل غيره ﴿إِنَّ فِي ذَالِكَ﴾ يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي أن يكون ابتداء خطاب من الله أي : في رد التابوت أيها الفريق ﴿لايَةً﴾ عظيمة ﴿لَكُمْ﴾ دالة على ملك طالوت وصدق قول نبيكم في أن الله جعله ملكاً فإنه أمر مناقض للعادة ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ مصدقين بالله فصدقوا بتمليكه عليكم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٥
وفي الإشارة إلى أن آية ملك الخلافة للعبد أن يظفر بتابوت قلب فيه سكينة من ربه وهي : الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون وهي عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي كلمة التقوى وهي الحية التي إذا فتحت فاها تلقف سحرة صفات فرعون النفس فعصا ذكر الله في تابوت القلوب وقد أودعها الله بين أصبعي جماله وجلاله كما قال عليه السلام :"قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" فبصفة الجلال يلهمها فجورها وبصفة الإكرام يلهمها تقواها كما قال تعالى :﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا﴾ (الشمس : ٨) ولم يستودعها ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فشتان بين أمة
٣٨٦
سكينتهم فيما للأعداء عليه تسلط وبين أمة سكينتهم فيما ليس للأولياء ولا للأنبياء عليه ولاية وإن كان في ذلك التابوت بعض التوراة موضوعاً ففي تابوت قلوب هذه الأمة جميع القرآن محفوظ وإن كان في تابوتهم بيوت فيها صور الأنبياء ففي تابوت قلوبهم خلوات ليس فيها معهم غير الله كما قال :"لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن" فإذا تيسر لطالوت روح الإنسان أن يؤتى تابوت القلب الرباني فسلم ملك الخلافة وسرير السلطنة واستوثق عليه جميع أسباط الصفات الإنساني فلا يركن إلى الدنيا الغدارة المكارة بل يتهجر منها ويتبرز لقتال جالوت النفس الأمارة وهذا لا يتيسر إلا بفضل الله وأخذ الطريقة والتمسك بالحقيقة.
ره اينست روى از طريقت متاب
بنه كام وكامي كه خواهي بياب
ومن أراد أن يزداد سكينة فليصلْ إلى المعرفة فإن المعرفة الإلهية توجب السكينة في القلب كما أن القلب يوجب السكون.
وسئل أبو يزيد عن المعرفة فقال :﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً﴾ (النمل : ٣٤) أي : غيروا حالها عما هي عليه وكذلك إذا وردت الواردات الربانية على القلوب الممتلئة أخرجت منها كل صفة رديئة.
وقيل لأبي يزيد : بم وجدت هذه المعرفة؟ فقال : ببطن جائع وبدن عار، قال السعدي قدس سره :
باندازه خور زاد اكر مردمي
نين رشكم آدمي ياخمى
ندارند تن روران آكهى
كه ر معده باشدز حكمت تهى
اللهم احفظنا من الموانع في طريق الوصول إليك آمين آمين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٥
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ الأصل فصل نفسه ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة اللازم كانفصل والمعنى انفصل عن بلده مصاحباً لهم لقتال العمالقة.
والجنود جمع جند وهو الجيش الأشداء مأخوذ من الجند وهي الأرض الشديدة وكل صنف من الخلق جند على حدة.