ـ روي ـ أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر فتسارعوا إلى الجهاد فقال طالوت : لا يخرج معي شيخ ولا مريض ولا رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفاً وكان الوقت قيظاً أي : شديد الحر وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء وسألوا أن يجري الله لهم نهراً ﴿قَالَ﴾ أي : طالوت بإخبار من النبي أشمويل ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ﴾ أي : معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه وذلك الاختبار ليظهره عند طالوت من كان مخلصاً في نيته من غيره ليميزهم من العسكر لأن من لا يريد القتال إذا خالط عسكراً يدخل الضعف في العسكر فينهزمون بشؤمه :
آنكه جنك آرد بخون خويش بازى ميكند
روز ميدان آنكه بكر يزيد بخون لشكري
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٧
فميز بينهما كالذهب والفضة فيهما الخبث فميز الخالص من غيره بالنار ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ﴾ أي ابتدأ شربه من ماء النهر بأن كرع وهو تناول الماء بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء ﴿فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أي : من جملتي وأشياعي المؤمنين فمن للتبعيض دخلت على نفس المتكلم للإشعار بأن أصحابه لقوة اختصاصهم واتصالهم به كأنهم بعضه أو ليس
٣٨٧
بمتحد معي فمن اتصالية كما في قوله تعالى :﴿الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ﴾ (التوبة : ٦٧) أي : بعضهم متصل بالبعض الآخر ومتحد معه ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ﴾ الطعم هنا بمعنى الذوق وهو التناول من الشيء تناولاً قليلاً يقال طعم الشيء إذا ذاقه مأكولاً أو مشروباً ﴿فَإِنَّه مِنِّى﴾ أي : من أهل ديني ﴿إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَا بِيَدِهِ﴾ استثناء من قوله فمن شرب منه واعتراض الجملة الثانية وهو من لم يطعمه للعناية بها لأن عدم الذوق منه رأساً عزيمة والاغتراف رخصة وبيان حال الأخذ بالعزيمة أهم من بيان الأخذ بالرخصة.
والغرفة بالضم اسم للقدر الحاصل في الكف بالاغتراف والغرف أخذ ماء بآلة كالكف وهو في الأصل القطع والغرفة التي هي العلية قطعة من البناء والباء متعلقة باغترف.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الغرفة الواحدة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها، قال الإمام وهذا يحتمل وجهين : أحدهما أنه كان مأذوناً له أن يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ودوابه وخدمه ويحمل باقيه.
وثانيهما أنه كان يأخذ القليل فيجعل الله فيه البركة حتى يكفي كل هؤلاء فيكون معجزة لنبي الزمان كما أنه تعالى يروي الخلق الكثير من الماء القليل في زمن محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ﴾ أي : فانتهوا إلى النهر وابتلوا وكرعوا فيه كروعاً مثل الدواب ولم يقنعوا بالاغتراف فضلاً عن أن لا يذوقوا منه شيئاً ﴿إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ﴾ وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً على عدد أهل بدر فإنهم اغترفوا فشربوا بالأكف ورووا وأما الذين خالفوا فشربوا كرعاً فازدادوا عطشاً واسودت شفاههم وبقوا على شط النهر فعرف طالوت الموافق من المخالف فخلف الأشداء :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٨٧
نه بي حكم شرع آب خوردن خطاست
وكر خون بفتوى بريزى رواست
ولما ردوا بالخلاف في صفة شرب ماء أصله حلال لكن على صفة مخصوصة وهلكوا بعد الرد فما حال من تناول الحرام المحض في الطعام والشراب كيف يقبل ويسلم.
ثم إنه لا خلاف بين المفسرين في أن الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم والصحيح أنهم لم يجاوزوا النهر وإنما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى :﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ﴾ أي : النهر ﴿هُوَ﴾ أي : طالوت ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ وهم القليل الذين أطاعوه ولم يخالفوه فيما ندبهم إليه.
وفيه إشارة إلى أن من عداهم بمعزل من الإيمان ﴿مَعَهُ﴾ أي : مع طالوت متعلق بجاوز لا بآمنوا ﴿قَالُوا﴾ أي : بعض من معه من المؤمنين القليلين لبعض آخر منهم وهم الذين يظنون الآية فالمؤمنون الذين جاوزوا النهر صاروا فريقين فريقاً يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالباً على طبعه وفريقاً كان شجاعاً قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى.
والقسم الأول هم الذين قالوا :﴿لا طَاقَةَ﴾ قوة ﴿لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ أي : بمحاربتهم ومقاومتهم فضلاً عن أن يكون لنا غلبة عليهم وذلك لما شاهدوا منهم من الكثرة والقوة وكانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح.
والقسم الثاني : هم الذين أجابوهم بقولهم :﴿كَم مِّن فِئَةٍ﴾ (البقرة : ٢٤٩) الآية ﴿قَالَ﴾ كأنه قيل فماذا قال لهم مخاطبهم فقيل قال :﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا﴾ نصر ﴿اللَّهَ﴾ العزيز وتأييده ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ﴾ (البقرة : ٢٤٩) أي : كثير من
٣٨٨