البهيمية والسبعية والشيطانية كما قال تعالى :﴿كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين : ١٤) وذلك بأن أرواحهم النفيسة لما نظروا بروزنة الحواس الخمس إلى عالم الصورة الخسيسة حجبت عن مألوفاتها ومحابها ثم ابتليت بصحبة النفوس الحيوانية واستأنست بها ولهذا يسمى الإنسان إنساناً لأنه أنيس فبمجاورة النفس الخسيسة صار الروح النفيسة خسيساً فاستحسن ما استحسنت النفس واستلذ به ما استلذ به النفس واستمتع من المراتع الحيوانية فانقطع عنه الأغذية الروحانية ونسي حظائر القدس وجوار الحق في رياض الإنس ولهذا سمي الناس ناساً لأنه ناس فتاه في أودية الخسران واستهوته الشياطين في الأرض حيران ولما نسوا الله بالكفران نسيهم بالخذلان حتى غلب عليهم الهوى وأوقعهم في مهالك الردى فأصبحوا بنفوس أحياء وقلوب موتى ﴿سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ﴾ بالوعد والوعيد وخوفتهم بالعذاب الشديد ﴿أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بما أخبرتهم ودعوتهم إليه وأنذرتهم عليه لأن روزنة قلوبهم إلى عالم الغيب منسدة بقساوة حلاوة الدنيا وقلوبهم مغلوقة بحب الدنيا وشهواتها مقفول عليها بمتابعة الهوى كما قال تعالى :﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ (محمد : ٢٤) فما تنسموا روائح الإنس من رياض القدس بل هب عليهم صرصر الشقاوة من مهب حكم السابقة وأدركهم بالختم على أقفالها كما قال تعالى :﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ الآية انتهى ما في التأويلات.
ومن أمثال الإنجيل : قلوبكم كالحصاة لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الريح، قال السعدي :
ون بود أصل جوهري قابل
تربيت را درا وأثر باشد
هي صيقل نكو نداند كرد
آهنى راكه بد كهر باشد
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ لما ذكر هؤلاء الكفار بصفاتهم وحالاتهم ألحق به ذكر عقوباتهم فهو تعليل للحكم السابق وبيان ما يقتضيه.
والختم الكتم سمي به الاشتيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه لأنه كتم له وبلوغ آخره ومنه ختم القرآن نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه ولا ختم على الحقيقة وإنما المراد به أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم وانهماكهم في التقليد وإعراضهم عن النظر الصحيح فتجعل قلوبهم بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ولا ينفذ فيها الحق أصلاً وسمي هذه الهيئة على الاستعارة ختماً وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى :﴿أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِمْ﴾ وبالإغفال في قوله :﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا﴾ (النحل : ١٠٨) وبالإقساء في قوله :﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ (المائدة : ١٣) وهي من حيث أن الممكنات بأسرها مسندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث أنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى :﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ وقوله ذلك :﴿بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (المنافقون : ٣) وردت الآية الكريمة ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم فالختم مجازاة لكفرهم والله تعالى قد يسر عليهم السبل فلو جاهدوا لوفقهم فسقط الاعتراض بأنه إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة.
قال الشيخ في "تفسيره" وإسناد الختم الى الله للتنبيه على ان اباءهم عن قبول الحق كالشيء الخلقي غي العرضى انتهى وقال في التيسير حاص الختم
٤٧
عند أهل الحق عقوبة من الله تعالى لا تمنع العبد من الإيمان جبراً ولا تحمله على الكفر كرهاً بل هي زيادة عقوبة له على سوء اختياره وتماديه في الكفر وإصراره يحرم بها من اللطف الذي سهل به فعل الإيمان وترك العصيان يدل عليه أنهم بقوا مخاطبين بالإيمان بقوله تعالى :﴿بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ﴾ (الحديد : ٧) وملومين على الامتناع عنه لقوله تعالى :﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (الإنشقاق : ٢٠) ولو صاروا مجبورين وعن الإيمان عاجزين لزال الخطاب وسقط اللوم والعتاب كما في الختم على الأفواه يوم الحساب لما عجزوا به حقيقة عن الكلام لم يبق الخطاب بالكلام وتحقيق المذهب إثبات فعل العبد وتخليق الله تعالى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧
والقلوب : جمع قلب وهو الفؤاد سمي قلباً لتقلبه في الأمور ولتصرفه في الأعضاء.
وفي تفسير الشيخ : القلب قطعة لحم مشكل بالشكل الصنوبري معلق بالوتين مقلوباً والوتين عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه ويقال له : الأبهر.
وفي "تفسير الكواشي" القلب قطعة سوداء في الفؤاد وزعم بعضهم أنه الشكل الصنوبري المعلق بالوتين مقلوباً.


الصفحة التالية
Icon