القوة الباصرة وعلى العضوين وهو المراد ههنا لأنه أشد مناسبة للتغطية ﴿غِشَـاوَةٌ﴾ أي : غطاء ولا تغشية على الحقيقة وإنما المراد بها إحداث حالة تجعل أبصارهم بسبب كفرهم لا تجتلي الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين وتصير كأنها غطى عليها وحيل بينها وبين الأبصار ومعنى التنكير أن على أبصارهم ضرباً من الغشاوة خارجاً مما يتعارفه الناس وهي غشاوة التعامي عن الآيات.
قوله :﴿غِشَـاوَةٌ﴾ مبتدأ مؤخر خبره المقدم قوله :﴿وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ﴾ ولما اشترك السمع والقلب في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات وإدراك الأبصار مما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة.
قال في التيسير : إنما ذكر في الآية القلوب والسمع والأبصار لأن الخطاب كان باستعمال هذه الثلاثة في الحق كما قال تعالى :﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة : ٤٤) ﴿أَنفُسِكُمْ أَفَلا﴾ (الذاريات : ٢١) ﴿أَفَلا تَسْمَعُونَ﴾ (القصص : ٧١) ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي : عقوبة شديدة القوة ومنه العظم والعذاب كالنكال بناء ومعنى يقال أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه وسمي العذاب عذاباً لأنه يمنع عن الجناية إذا تأمل فيها العاقل ومنه الماء العذب لما أنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً لأنه ينقخ العطش أي : يكسره وفراتاً لأنه يرفته على القلب يعني الفرات وهو الماء العذب مأخوذ من الرفت وهو قلبه وقيل إنما سمي به لأنه جزاء ما استعذبه المرء بطبعه أي : استطابه ولذلك قال :﴿فَذُوقُوا عَذَابِى﴾ (القمر : ٣٧) وإنما يذاق الطيب على معنى أنه جزاء ما استطابه واستحلاه بهواه في الدنيا.
والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكان العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير.
قال في "التيسير" : عظيم أم كبير أو كثير أو دائم وهو التعذيب بالنار أبداً ثم عظمه بأهواله وبشدة أحواله وكثرة سلاسله وأغلاله فتكون هذه الآية وعيداً وبياناً لما يستحقونه في الآخرة وقيل هو القتل والأسر في الدنيا والتحريق بالنار في العقبى ومعنى التوصيف بالعظيم أنه إذا قيس سائر ما يجانسه قصر عنه جميعه ومعنى التنكير أن لهم من الآلام نوعاً عظيماً لا يعلم كنهه إلا الله عز وجل.
فعلى العاقل أن يجتنب عما يؤدي إلى العذاب الأليم والعقاب العظيم وهو الإصرار على الذنوب والإكباب على اقتراف الخطيئات والعيوب.
قيل في سبب الحفظ من هذه العقوبة التي هي الختم على الكيس فلا يمنعه عن حق ووضع الختم على اللسان فلا يطلقه في باطل قال السعدي :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧
بكمراه كفتن نكو ميروي
كناه بزركست وجور قوي
مكو شهد شيرين شكر فأيقست
كسى راكه سقمونيا لايقست
قال النبي صلى الله عليه وسلّم "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد" قيل : وما جلاؤها قال :"تلاوة القرآن وكثرة ذكر الله وكثرة ذكر الموت" وأمهات الخطايا ثلاث : الحرص، والحسد، والكبر، فحصل من هؤلاء ست فصارت تسعاً : الشبع، والنوم، والراحة، وحب المال، وحب الجاه، وحب الرياسة فحب المال والرياسة من أعظم ما يجر صاحبه إلى الكفر والهلاك ـ حكي ـ أن ملكاً شاباً قال : إني لا أجد في الملك لذة فلا أدري أكذلك يجده الناس أم أنا أجده
٤٩
فقالوا له : كذلك يجدها الناس قال : فماذا يقيمه؟ قالوا : يقيمه لك أن تطيع الله فلا تعصيه فدعا من كان في بلده من العلماء والصلحاء فقال لهم : كونوا بحضرتي ومجلسي فما رأيتم من طاعة الله فائمروني وما رأيتم من المعصية فازجروني عنها ففعل ذلك فاستقام له الملك أربعمائة سنة ثم إن إبليس أتاه يوماً على صورة رجل وقال له : من أنت؟ قال الملك رجل من بني آدم قال : لو كنت من بني آدم لمت كما تموت بنو آدم ولكنك إله فادع الناس إلى عبادتك، فدخل في قلبه شيء ثم صعد المنبر فقال : أيها الناس إني أخفيت عليكم أمراً حان إظهاره وهو أني ملككم منذ كذا سنة ولو كنت من بني آدم لمت ولكني إله فاعبدوني فأوحى الله إلى نبي زمانه وقال : أخبره أني استقمت له ما استقام لي فتحول من طاعتي إلى معصيتي فبعزتي وجلالي لأسلطن عليه بخت نصر ولم يتحول عن ذلك فسلطه عليه فضرب عنقه وأوقر من خزينته سبعين سفينة من ذهب، قال المولى جلال الدين قدس سره :
جز عنايت كه كشايد شم را
جز محبت كه نساند خشم را
جهد بي توفيق خود كس را مباد
در جهان والله أعلم بالرشاد
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧


الصفحة التالية
Icon