وفي "التأويلات النجمية" في الختم إشارة إلى بداية سوابق أحكام القدر بالسعادة والشقاوة على وفق الحكمة والإرادة الأزلية للخليقة كما قال تعالى :﴿فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ﴾ (هود : ١٠٥) مع حسن استعداد جميعهم بقبول الإيمان والكفر ولهذا لما خاطب الحق ذراتهم بخطاب الست بربكم قالوا : بلى جميعاً ثم أودع الله الذرات في القلوب والقلوب في الأجساد والأجساد في الدنيا في ظلمات ثلاث وكانت روزنة القلوب كلها مفتوحة إلى عالم الغيب بواسطة الذرات المودعات التي سمعت خطاب الحق وشاهدت كمال الحق إلى وقت ولادة كل إنسان كما قال عليه السلام :"كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" وفيه إشارة إلى أن الله يكل الأشقياء إلى تربية الوالدين في معنى الدين حتى يلقنوهم تقليد ما ألفوا عليه آباءهم من الضلالة فيضلوهم كما قال تعالى :﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ﴾ (الأنبياء : ٥٤) فكانت تلك الشقاوة المقدرة مضمرة في ضلالة التقليد والصفات النفسانية الظلمانية والهوى والطبيعة ثم جعل تأثيرها وظلمتها ورينها يندرج إلى القلوب فيقسيها ويسودها ويغطيها ويسد روزنتها إلى الذرات فيعميها ويصمها حتى لا يبصر أهل الشقاوة ببصر الذرات من الحق ما كانوا يبصرون ولا يسمع بسمع الذرات من الحق ما كانوا يسمعون فينكرون على الأنبياء ويكفرون بهم وبما يدعونهم إليه فيختم الله شقاوتهم بكفرهم هذا ويطبع به على قلوبهم كقوله تعالى :﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ فَسِّرُ القدر مستور لا يطلع عليه أحد إلا الله فيظهر آثار السعادة بإقرار السعداء ويظهر آثار الشقاوة بإنكار الأشقياء وكفرهم من القدر كالبذر في الأرض مستور فتظهر الشجرة منه وهو في الشجرة مستور فيخرج مع الأغصان من الشجرة وهو في الأغصان مستور حتى يخرج مع الثمرة من الأغصان وهو الثمرة مستور حتى يظهر من الثمرة فيختم ظهور البذر بالثمرة فكذلك سر القدر وهو بذر السعادة أو الشقاوة مستور في علم الله تعالى فتظهر شجرة وجود الإنسان منه والسعادة والشقاوة مستورة فيها فتخرج مع أغصان
٥٠
الأخلاق وهي مستورة فيها فتخرج مع ثمرة الأعمال وهي الإقرار والإنكار والإيمان والكفر فيختم ظهور سر القدر وهو السعادة أو الشقاوة بثمرة الإيمان أو الكفر فيظهر سر القدر عند الختم بالسعادة أو الشقاوة فالذين ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ إنما ختم بخاتم كفرهم وإن كان نقش خاتمهم هو الأحكام الأزلية وسر القدر حتى حرموا من دولة الوصال وبه ختم ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ حتى لم يسمعوا خطاب الملك ذي الجلال ﴿وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ غِشَـاوَةٌ﴾ من العمي والضلال فلم يشاهدوا ذلك الجمال والكمال فلهم حرمان مقيم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لأنهم منعوا من مرادهم وهو العلي العظيم فعظم العذاب يكون على قدر عظمة المراد الممنوع منه انتهى ما في "التأويلات".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ (البقرة : ٨) لما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بشرح حاله وساق لبيانه ذكر الذين أخلصوا دينهموواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للتقسيم وهم أي : المنافقون أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خذاعاً واستهزاء ولذلك طول في بيان خبثهم.
قال القاشاني الاقتصار في وصف الكفار المصرين المطبوع على قلوبهم على آيتين والإطناب في وصف المنافقين في ثلاث عشرة آية للإضراب عن أولئك صفحاً إذ لا ينجع فيهم الكلام ولا يجدي عليهم الخطاب وأما المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ والتعبير وعسى أن يرتدعوا بالتشنيع عليهم وتفظيع شأنهم وسيرتهم وتهجير عادتهم وخبث نيتهم وسريرتهم وينتهوا بقبيح صورة حالهم وتفضيحهم بالتمثيل بهم وبطريقتهم فتلين قلوبهم وتنقاد نفوسهم وتزكي بواطنهم وتضمحل رذائلهم فيرجعون عما هم عليه ويصيرون من المستثنى في قوله تعالى :﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فأولئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَا وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء : ١٤٦).
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥١


الصفحة التالية
Icon