والناس اسم جمع للإنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي قال تعالى :﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا﴾ (طه : ١١٥) ولذلك جاء في تفسير قوله تعالى :﴿إِنَّ الانسَـانَ لِرَبِّه لَكَنُودٌ﴾ (العاديات : ٦) أي : نَسَّاء للنعم ذكار للمحن وقيل : لظهوره من آنس أي : أبصر لأنهم ظاهرون مبصرون ولذلك سموا بشراً كما سمي الجن جناً لاجتنانهم أي : استتارهم عن أعين الناس وقيل : هو من الإنس الذي هو ضد الوحشة لأنهم يستأنسون بأمثالهم أو يستأنس أرواحهم بأبدانهم وأبدانهم بأرواحهم واللام فيه للجنس ومَنْ في قوله :﴿مَن يَقُولُ﴾ موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال : ومن الناس ناس يقولون أي : يقرّون باللسان والقول هو التلفظ بما يفيد ويقال بمعنى المقول وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي وللمذهب مجازاً ووحد الضمير في يقول باعتبار لفظ من وجمعه في قوله :﴿مَن﴾ وقوله :﴿وَمَا هُم﴾ باعتبار معناها لأن كلمة من تصلح للواحد والجمع أو اللام فيه للعهد والمعهود هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ونظراؤه من المنافقين حيث أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا من النبي عليه السلام وأصحابه واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود فإنهم من حيث أنهم صمموا على النفاق ودخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم
٥١
زيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيماً للقسم الثاني ﴿بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ﴾ أي : صدقنا بالله ﴿وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى أي : الوقت الدائم الذي هو آخر الأوقات المنقضية والمراد به البعث أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأيام المحدودة إذ لا حد وراءه وسمي بالآخر لتأخره عن الدنيا وتخصيصهم للإيمان بهما بالذكر له ادعاء أنهم قد حازوا الإيمان من قطريه وأحاطوا به من طرفيه وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق لأن القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً كلا إيمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وأن الجنة لا يدخلها غيرهم وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغيرها ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم وحكاية عبارتهم لبيان كمال خبثهم فإن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن ذلك إيماناً فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المسلمين واستهزاء بهم فكان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ ما نائبة عن ليس ولهذا عقب بالباء أي : ليسوا بمصدقين لأنهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون وفي الحكم عليهم بأنهم ليسوا بمؤمنين نفى ما ادعوه على سبيل البت والقطع لأنه نفى أصل الإيمان منهم بإدخال الباء في خبر ما ولذا لم يقل وما هم من المؤمنين فإن الأول أبلغ من الثاني.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥١
دّلت الآية على أن الدعوى مردودة إذا لم يقم عليها دلائل الصحة قال قائلهم : من تحلى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدعيه فإن من مدح نفسه ذم ومن ذم نفسه مدح قال فرعون عليه لعنات الله ﴿وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (يونس : ٩٠) فقيل : وكنت من المفسدين وقال يونس عليه السلام :﴿إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ (الأنبياء : ٨٧) فقيل له :﴿فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ (الصافات : ١٤٣)، قال الحافظ قدس سره :
خوش بود كر محك تجربه آيد بميان
تاسيه روى شود هركه دروغش باشد
ـ حكي ـ أن شيخاً كان له تلميذ يدعي أنه أمين والشيخ يعلم منه خلاف ذلك وهو يرد على الشيخ في ذلك ويدعي الأمانة ويطلب منه أن يكشف له سراً من أسرار الله تعالى فأخذ الشيخ يوماً تلميذاً من أصحابه وخبأه في بيت وعمد إلى كبش فذبحه وألقاه في عِدْل ودخل ذلك التلميذ المدعى فرأى الشيخ ملطخاً بالدماء والعدل أمامه والسكين في يده فقال له : يا سيدي ما شأنك؟ فقال له : غاظني فلان يعني ذلك التلميذ فقتلته يعني التلميذ يعني بقتله مخالفة هواه حتى لا يكذب الشيخ فتخيل التلميذ أنه في العدل فقال الشيخ : هذه أمانة فاستر علي وادفن معي هذا المذبوح الذي في هذا العدل فدفنه معه في الدار وقصد الشيخ نكاية ذلك التلميذ وأن يفعل معه ما يخرجه وجاء أبو ذلك المخبوء يطلب ابنه فقال له الشيخ هو عندي فمضى الرجل فلما كبر على الرجل نكاية الشيخ مشى إلى والد ذلك المخبوء وأخبره أن الشيخ قتله ودفنه معه ورفع ذلك إلى السلطان فتوقف السلطان في ذلك الأمر لما يعرفه من جلالة الشيخ وبعث إليه بالقاضي والفقهاء وأخذ ذلك التلميذ يسب الشيخ ووقف الشهود حتى حضروا إلى العدل فعاينوا الكبش وخرج التلميذ المخبوء وافتضح وندم حيث لا ينفعه الندم
٥٢


الصفحة التالية
Icon