وقيل يعاملهم على وفق ما عاملوا وذلك فيما جاء أنهم إذا ألقوا في النيران وعذبوا فيها طويلاً من الزمان استغاثوا بالرحمن قيل لهم : هذه الأبواب قد فتحت فاخرجوا فيتبادرون إلى الأبواب فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم وأعيدوا إلى الآبار والتوابيت مع الشياطين والطواغيت قال تعالى :﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ (الطارق : ١٥ ـ ١٦) وفي الحديث "يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا رايحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك فيقول ذلك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم فإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس وتظهرون خلاف ما تنطوي قلوبكم عليه هبتم الدنيا ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي" يعني : لأجل الناس فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم يعني من جزيل ثوابي كذا "في روضة العلماء" و"تنبيه الغافلين" ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ حال من ضمير ما يخدعون أي : يقتصرون على خدع أنفسهم والحال أنهم ما يحسون بذلك لتماديهم في الغفلة والغواية جعل طوق وبال الخداع ورجوع ضررهم إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس وهذا تنزيل لهم منزلة الجمادات وحط من مرتبة البهائم حيث سلب منهم الحس الحيواني فهم ممن قيل في حقهم ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ فلا يشعرون أبلغ وأنسب من لا يعلمون.
والشعور : الإحساس أي : علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه سميت به لكون كل حاسة محلاً للشعور والعظة فيه أن المنافق عمل ما عمل وهو لا يعلم بوبال ما عمل والمؤمن يعلم به فما عذره عند ربه ثم في هذه الآية نفي العلم عنهم وفي قوله :﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران : ٧١) إثبات العلم لهم والتوفيق بينهما أنهم علموا به حقيقة ولكن لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا وهو كقوله عز وجل :﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ﴾ (البقرة : ٨١) فكانوا ناطقين سامعين ناظرين حقيقة لكن لم ينتفعوا بذلك فكانوا كأنهم صم بكم عمي فذو الآلة إذا لم ينتفع بها فهو وعادم الآلة سواء والعالم الذي لا يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء والغنى الذي لا ينتفع بماله فهو والفقير سواء فإثبات العلم للكفار إلزام الحجة وذكر الجهل إثبات المنقصة بخلاف المؤمنين فإن إثبات العلم لهم إثبات الكرامة وذكر الجهل تلقين عذر المعصية كذا في "التيسير".
فعلى المؤمن أن يتحلى بالعلم والعمل، ويجتنب عن الخطأ والزلل ويطيع ربه خالصاً لوجهه الكريم ويعبده بقلب سليم وفي الحديث "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال :"الرياء يقول الله تعالى يوم يجازي العباد
٥٤
بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون لهم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم خيراً" وإنما يقال لهم ذلك لأن عملهم في الدنيا كان على وجه الخداع فيعاملون في الآخرة على وجه الخداع كذا في "تنبيه الغافلين"، قال السعدي :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣
ه قد رآورد بنده نزد رئيس
كه زير قبا دارد اندام يس
وفي "التأويلات النجمية" الإشارة إلى الله تعالى لما قدر لبعض الناس الشقاوة في الأزل أثمر بذر سر القدر المستور في أعماله ثمرة مخادعة الله في الظاهر ولا يشعر أن المخادعة نتيجة بذر سر القدر بطريق تزيين الدنيا في نظره وحب شهواتها في قلبه كما قال تعالى :﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ (آل عمران : ١٤) الآية فانخدع بزينة الدنيا وطلب شهواتها عن الله وطلب السعادة الأخروية فعلى الحقيقة هو المخادع الممكور كما قال تعالى :﴿يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ﴾ (النساء : ١٤٢) فعلى هذا ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ﴾ حقيقة في صورة مخادعتهم الله والذين آمنوا لأنهم كانوا قبل مخادعتهم الله مستوجبين النار بكفرهم مع إمكان ظهور الإيمان منهم فلما شرعوا في إظهار النفاق بطريق المخادعة نزلوا بقدم النفاق الدرك الأسفل من النار فأبطلوا استعداد قبول الإيمان وإمكانه عن أنفسهم فكانت مفسدة خداعهم ومكرهم راجعة إلى أنفسهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي : ليس لهم الشعور بسر القدر الأزلي وإن معاملتهم في المكر والخداع من نتائجه لأن في قلوبهم مرضاً ومرض القلب ما يفهم من شعور سر القدر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٣


الصفحة التالية
Icon