﴿فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ زاد يجيء متعدياً كما في هذه الآية ولازماً كما في قوله تعالى :﴿وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ (الصافات : ١٤٧) والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ويوجب الخلل في أفاعيله ويؤدي إلى الموت ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي وغير ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني لأنها مانعة عن نيل الفضائل أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقة الأبدية والآية الكريمة تحتملها فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقاً على ما فات عنهم من الرئاسة وحسداً على ما يرون من ثبات أمر الرسول عليه السلام واستعلاء شأنه يوماً فيوماً فزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره ورفع قدره وأن نفوسهم كانت مؤوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي عليه السلام ونحوها فزاد الله ذلك بأن طبع على قلوبهم لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار وبازدياد التكاليف الشرعية وتكرير الوحي وتضاعف النصر لأنهم كلما ازداد التكاليف بنزول الوحي يزدادون كفراً وقد كان يشق عليهم التكلم بالشهادة فكيف وقد لحقتهم الزيادات وهي وظائف الطاعات ثم العقوبة على الجنايات فازدادوا بذلك اضطراباً وارتياباً على ارتياب ويزدادون بذلك في الآخرة عذاباً على عذاب قال تعالى :﴿زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ (النحل : ٨٨) والمؤمنون لهم في الدنيا ما قال :﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى﴾ (مريم : ٧٦) وفي العقبى ما قال :﴿وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ (الشورى : ٢٦).
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥
قال القطب العلامة أمراض القلب إما متعلقة بالدين وهو سوء الاعتقاد والكفر أو بالأخلاق وهي إما رذائل فعلية كالغل والحسد وإما رذائل انفعالية كالضعف والجبن فحمل المرض أولاً على الكفر ثم على الهيئات الفعلية ثم على الهيئات الانفعالية ويحتمل أن يكون قوله تعالى :
٥٥
﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ﴾ دعاء عليهم، فإن قلت فكيف يحمل على الدعاء والدعاء للعاجز عرفاً والله تعالى منزه عن العجز؟ قلت هذا تعليم من الله عباده أنه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لأنهم شر خلق الله لأنه أعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار وهذا كقوله تعالى :﴿قَـاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ (التوبة : ٣٠) ﴿وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ (التوبة : ٦٨) ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يصل ألمه إلى القلوب وهو بمعنى المؤلم بفتح اللام على أنه اسم مفعول من الإيلام وصف به العذاب للمبالغة وهو في الحقيقة صفة المعذب بفتح الذال المعجمة كما أن الجد للجاد في قولهم جد جده وجه المبالغة إفادة أن الألم بلغ الغاية حتى سرى المعذب إلى العذاب المتعلق به ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ الباء للسببية أو للمقابلة وما مصدرية داخلة في الحقيقة على يكذبون وكلمة كانوا مقحمة لإفادة دوام كذبهم وتجدده أي : بسبب كذبهم المتجدد المستمر الذي هو قولهم آمنا إلخ وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم نظراً إلى ظاهر العبارة المتخيلة لانفراده بالسببية مع إحاطة علم السامع بأن لحوق العذاب بهم من جهات شتى وأن الاقتصار عليه للإشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه.
والكذب : الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله.
وأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام :(كذب ثلاث كذبات) فالمراد به التعريض لكن لما شابه الكذب في صورته سمي به وإحدى الكذبات قوله :﴿إِنِّى سَقِيمٌ﴾ (الصافات : ٨٩) أي : ذاهب إلى السقم أو إلى الموت أو سيسقم لما يجد من الغيظ في اتخاذهم النجوم آلهة قاله ليتركوه من الذهاب معهم إلى عيد لهم حتى يخلوا سبيله فيكسر أصنامهم.
والثانية قوله :﴿بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ﴾ (الأنبياء : ٦٣) هذا على الفرض والتقدير على سبيل الإلزام كأنه قال لو كان إلهاً معبوداً وجب أن يكون قادراً على أن يفعله فإذا لم يكن قادراً عليه يكون عاجزاً والعاجز بمعزل عن الألوهية واستحقاق العبادة فكيف حالكم في العكوف عليه فهذا القول تهكم بعقولهم.
وثالثتها قوله في حق زوجته سارة رضي الله عنها :"هذه أختي" والمراد منه الأخوة في الدين وغرضه منه تخليصها من يد الظالم لأن من دين ذلك الملك الذي يتدين به في الأحكام المتعلقة بالسياسة لا يتعرض إلا لذوات الأزواج لأن من دينه أن المرأة إذا اختارت الزوج فالسلطان أحق بها من زوجها وأما اللاتي لا أزواج لهن فلا سبيل عليهن إلا إذا رضين.
وأما قوله :﴿هَـاذَا رَبِّى﴾ (الأنعام : ٧٦) فهو من باب الاستدراج وهو إرخاء العنان مع الخصم وهو نوع من التعريض لأن الغرض منه حكاية قولهم كذا في "حواشي ابن تمجيد".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥


الصفحة التالية
Icon