واعلم أن الكذب من قبائح الذنوب وفواحش العيوب ورأس كل معصية بها يتكدر القلوب وأبغض الأخلاق أنه مجانب للإيمان يعني الإيمان في جانب والكذب في جانب آخر مقابل له وهذا كناية عن كمال البعد بينهما وفي الحديث "ما لي أراكم تتهافتون على الكذب تهافت الفراش في النار كل الكذب مكتوب كذباً لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب فإن الحرب خدعة أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما أو يحدث امرأته ليرضيها" مثل أن يقول لا أحد أحب إلي منك وكذا من جانب المرأة فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء وفي معناها ما أداها إذا ارتبط بمقصود صحيح له أو لغيره كما قيل بالفارسية :
دروغ مصلحت آميز به أزراست فتنة انكيز†
لكن هذا في حق الغير وأما في حق نفسه فالصدق أولى وإن لزم الضرر، كما قال السعدي :
٥٦
تانيك نداني كه سخن عين صوابست
بايد كه بكفتن دهن أزهم نكشابي
كرراست سخن كويي ودربندبماني
به زانكه دروغت دهد ازبند رهايي
واعلم أن المراد بالكذب في الحقيقة الكذب في العبودية والقيام بحقوق الربوبية كما للمنافقين ومن يحذو حذوهم ولا يصح الاقتداء بأرباب الكذب مطلقاً ولا يعتمد عليهم فإنهم يجرون إلى الهلاك والفراق عن مالك الأملاك.
قال في "المثنوي" :
صبح كاذب كار وانهارا زده است
كه ببوي روز بيروي آمده است
صبح كاذب خلق را رهبر مباد
كو دهد بس كاروانها را بباد
قال القاشاني في تأويل الآية : في قلوبهم حجاب من حجب الرذائل النفسانية الشيطانية والصفات البشرية عن تجليات الصفات الحقانية.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ وهو التفات إلى غير الله ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي : زاد مرض الالتفات على مرض خداعهم فحرموا من الوصول والوصال ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ من حرمان الوصول إلى الله تعالى ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ بقولهم : إنا آمنا بالله فإنهم ليسوا بمؤمنين حقيقة والإيمان الحقيقي نور إذا دخل القلب يظهر على المؤمن حقيقته كما كان لحارثة لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلّم "كيف أصبحت يا حارثة" قال : أصبحت مؤمناً حقاً قال :"يا حارثة إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك" قال : أعرضت نفسي عن الدنيا أي : زدت وانصرفت فأظمأ نهارها وأسهر ليلها واستوى عندي حجرها وذهبها وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار ينصاعون وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أصبت فالزم"، قال في "المثنوي" :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥
أهل صيقل رسته اند ازبو ورنك
هر دمي بينند خوبي بي درنك
نقش وقشر علم را بكذا شتند
رايت عين اليقين افرا شتند
بر ترنداز عرش وكرسي وخلا
ساكنان مقعد صدق خدا
علم كان نبود زهو بي واسطه
آن نبايد همورنك ماشطه
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي : قال المسلمون لهؤلاء المنافقين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٥
﴿لا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ﴾ إسناد قيل إلى لا تفسدوا إسناد له إلى لفظه كأنه قيل وإذا قيل لهم هذا القول كقولك ألف ضرب من ثلاثة أحرف.
والفساد : خروج الشيء عن الاعتدال والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع والفساد في الأرض تهيج الحروب والفتن المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلال أمر المعاش والمعاد والمراد بما نهوا عنه ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم عليه وغير ذلك من فنون الشرور فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدياً إلى الفساد قيل : لا تفسدوا كما يقول الرجل لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار إذا أقدم على ما هذه عاقبته وكانت الأرض قبل البعثة يعلن فيها بالمعاصي فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلّم ارتفع الفساد وصلحت الأرض فإذا أعلنوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها كما في "تفسير أبي الليث" ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ جواب لاذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصلح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالنا
٥٧


الصفحة التالية
Icon