متمحضة عن شوائب الفساد وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال الله تعالى :﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه فَرَءَاهُ حَسَنًا﴾ (فاطر : ٨) فأنكروا كون ذلك فساداً وادعوا كونه إصلاحاً محضاً وهو من قصر الموصوف على الصفة مثل إنما زيد منطلق.
قال ابن التمجيد : إن المسلمين لما قالوا لهم لا تفسدوا توهموا أن المسلمين أرادوا بذلك أنهم يخلطون الإفساد بالإصلاح فأجابوا بأنهم مقصورون على الإصلاح لا يتجاوزون منه إلى صفة الإفساد فيلزم منه عدم الخلط فهو من باب قصر الإفراد حيث توهموا أن المؤمنين اعتقدوا الشركة فأجابهم الله تعالى بعد ذلك بما يدل على القصر القلبي وهو قوله تعالى :﴿ألا﴾ أيها المؤمنون اعلموا ﴿إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ فإنهم لما أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين ونفوا الأخرى واعتقدوا ذلك قلب الله اعتقادهم هذا بأن أثبت لهم ما نفوه ونفى عنهم ما أثبتوا والمعنى هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الإيمان لا يتخطون منه إلى صفة الإصلاح من باب قصر الشيء على الحكم فهم لا يعدون صفة الفساد والإفساد ولا يلزم منه أن لا يكون غيرهم مفسدين ثم استدرك بقوله تعالى :﴿وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم مفسدون للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة لكن لا حس لهم حتى يدركوه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧
قال الشيخ في "تفسيره" : ذكر الشعور بإزاء الفساد أوفق لأنه كالمحسوس عادة ثم فيه بيان شرف المؤمنين حيث تولى الله جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين كما كان في حق المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم فإن الوليد بن المغيرة قال له : إنه مجنون فنفاه الله عنه بقوله :﴿مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ (القلم : ٢) ثم قال في ذم ذلك اللعين ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءا بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍا بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ﴾ (القلم : ١٠ ـ ١٣) أي : حلاف حقير عياب يمشي بين الناس بالنميمة بخيل للمال ظالم فاجر غليظ القلب جاف ومع ذلك الوصف المذكور هو ولد الزنى وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم اتخذ ربه وكيلاً على أموره بمقتضى قوله :﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا﴾ (المزمل : ٩) فهو تعالى يكفي مؤونته كما قال أهل الحقائق : إن خوارق العادات قلما تصدر من الأقطاب والخلفاء بل من وزرائهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء ومن جملة كمالات الأقطاب ومنن الله عليهم أن لا يبتليهم بصحبة الجهلاء بل يرزقهم صحبة العلماء الأدباء الأمناء يحملون عنهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم وذلك كما كان الكامل آصف بن برخيا وزير سليمان عليه الصلاة والسلام الذي كان قطب وقته ومتصرفاً وخليفة على العالم فظهر منه ما ظهر من إتيان عرش بلقيس كما حكاه الله تعالى في القرآن.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ﴾ الإشارة في تحقيق الآيتين أن الإنسان وإن خلق مستعداً لخلافة الأرض ولكنه في بداية الخلقة مغلوب الهوى والصفات النفسانية فيكون مائلاً إلى الفساد كما أخبرت عنه الملائكة وقالوا :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ (البقرة : ٣٠) الآية فبأوامر الشريعة ونواهيها يتخلص جوهر الخلافة عن معدن نفس الإنسان فأهل السعادة وهم المؤمنون ينقادون للداعي إلى الحق ويقبلون الأوامر والنواهي وأهل الشقاوة وهم الكافرون المنافقون يمرقون من الدين ويتبعون الهوى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ﴾ أي : لا تسعوا في إفساد حسن استعدادكم وصلاحيتكم
٥٨
للخلافة في الأرض باتباعكم الهوى وحرصكم على الدنيا ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ لا يقبلون النصيحة غافلين عن حقيقتها، كما قال السعدي :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧
كسى را كه بند أر درسر بود
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيد أز وعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
فكذبهم الله تعالى بقوله :﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ يفسدون صلاح آخرتهم بإصلاح دنياهم ﴿وَلَاكِن لا يَشْعُرُونَ﴾ أي : لا شعور لهم بإفساد حالهم وسوء أعمالهم وعظم وبالهم من خسار حسن صنيعهم وادعائهم بالصلاح على أنفسهم كما قال الله تعالى ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاخْسَرِينَ أَعْمَالا﴾ (الكهف : ١٠٣) الآية.
قال المولى جلال الدين قدس سره :
أي كه خودرا شير يزدان خواندة
سالها شد باسكى درمانده
ون كند آن سك براي توشكار
ون شكار سك شد ستى آشكار
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٧


الصفحة التالية
Icon