﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ من طرف المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثر نهيهم عن المنكر إتماماً للنصح وإكمالاً للإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله تعالى :﴿لا تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ﴾ والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله تعالى :﴿ءَامَنُوا﴾ حذف المؤمن به لظهوره أي : آمنوا بالله وباليوم الآخر أو أريد افعلوا الإيمان ﴿كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ﴾ الكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد محذوف أي : آمنوا إيماناً مماثلاً لإيمانهم فما مصدرية أو كافة أي : حققوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم.
واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل أو للعهد والمراد به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه أو من آمن من أهل بلدتهم أي : من أهل ضيعتهم كابن سلام وأصحابه والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص متمحضاً من شوائب النفاق مماثلاً لإيمانهم ﴿قَالُوا﴾ مقابلين للأمر بالمعروف بالإنكار المنكر واصفين للمراجيح الرزان بضد أوصافهم الحسان ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ﴾ الهمزة فيه للإنكار واللام مشار بها إلى الناس الكاملين أو المعهودين أو إلى الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد والسفه خفة عقل وسخافة رأى يورثهما قصور العقل ويقابله الحلم والأناة وإنما نسبوهم إليه مع أنهم في الغاية القاصية من الرشد والرزانة والوقار لكمال انهماك أنفسهم في السفاهة وتماديهم في الغواية وكونهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً فمن حسب الضلال هدى يسمى الهدى لا محالة ضلالاً أو لتحقير شأنهم فإن كثيراً من المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس عبد الله بن سلام وأمثاله فإن قيل كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقوله :﴿أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ﴾ ؟ قلنا فيه أقوال :
الأول : أن المنافقين لعنهم الله كانوا يتكلمون بهذا الكلام في أنفسهم دون أن ينطقوا به بألسنتهم لكن هتك الله تعالى أستارهم وأظهر أسرارهم عقوبة على عداوتهم وهذا كما أظهر ما أضمره أهل الإخلاص من الكلام الحسن وإن لم يتكلموا به بالألسن تحقيقاً لولايتهم قال الله تعالى :﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ (الإنسان : ٧) إلى أن قال :﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ (الإنسان : ٩) وكان هذا في قلوبهم فأظهره الله
٥٩
تعالى تشريفاً لهم وتشهيراً لحالهم هذا قول صاحب "التيسير".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩
والثاني : أن المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين بذلك هذا قول البغوي.
والثالث : قول أبي السعود في "الإرشاد" حيث قال هذا القول وإن صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جواباً عن نصيحتهم لكن لا يقتضي كونهم مجاهرين لا منافقين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه محتمل للشر كما ذكر في تفسيره وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اهتموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذي لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرون بذلك قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم يقولون على الأول فرد عليهم ذلك بقوله عز وجل :﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَاكِن لا يَعْلَمُونَ﴾ أنهم هم السفهاء ولا يحيطون بما عليهم من داء السفه والمؤمنون بإيمانهم وإخلاصهم هربوا من السفه وغبوا في العلم والحق وهم العلماء على الحقيقة والمستقيمون على الطريقة وهذا ردّ ومبالغة في تجهيلهم فإن الجاهل نجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.


الصفحة التالية
Icon