واعلم أن قوله تعالى :﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ في الآية الأولى نفي الإحساس عنهم وفي الثانية نفي الفطنة لأن معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة وفي الآية الثالثة نفي العلم وفي نفيها على هذه الوجوه تنبيه لطيف ومعنى دقيق وذلك أنه بين في الأول أن في استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحس وفي الثاني أنهم لا يفطنون تنبيهاً على أن ذلك لزم لهم لأن من لا حس له لا فطنة له وفي الثالث أنهم لا يعلمون تنبيهاً على أن ذلك أيضاً لازم لهم لأن من لا فطنة له لا علم له فإن العلم تابع للعقل ـ كما حكي ـ أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام أتى إليه جبرائيل بثلاث تحف : العلم، والحياء، والعقل، فقال : يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد فاختار العقل فأشار جبريل إلى العلم والحياء بالرجوع إلى مقرهما فقالا إنا كنا في عالم الأرواح مجتمعين فلا نرضى أن نفترق بعضنا عن بعض في الأشباح أيضاً فنتبع العقل حيث كان فقال جبريل عليه السلام استقرا فاستقر العقل في الدماغ والعلم في القلب والحياء في العين.
قال المولى جلال الدين قدس سره :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩
جملة حيوانرا ي إنسان بكش
جملة انسانرا بكش ازبهر هش
هش ه باشد عقل كل أي : هو شمند
عقل جز وي هش بود اما نند
لطف أو عاقل كند مر نيل را
قهر أو ابله كند قابل را فليسارع العاقل إلى تحصيل العلم والمعرفة حتى يصل إلى توحيد الفعل والصفة.
قال الإمام القشيري رحمه الله : للعقل : نجوم وهي للشيطان رجوم وللعلوم أقمار هي للقلوب أنوار واستبصار وللمعارف شموس ولها على أسرار العارفين طلوع والعلم اللدني هو الذي ينفتح في بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج وللقلب بابان : باب إلى الخارج يأخذ العلم من الحواس، وباب إلى الداخل يأخذ العلم بالإلهام، فمثل القلب كمثل الحوض الذي يجري فيه أنهار خمسة فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الأنهار الخمسة بخلاف ما إذا خرج ماؤه من
٦٠
قعره حيث يكون ماؤه أصفى وأجلى فكذا القلب إذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو عن كدرة وشك وشبهة بخلاف ما إذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض فإنه أصفى وأولى.
وقال الشيخ زين الدين الحافي رحمه الله : والعجب ممن دخل في هذه الطريقة وأراد أن يصل إلى الحقيقة وقد حصل من الاصطلاحات ما يستخرج بها المعاني من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلّم ثم لا يشتغل بذكر الله وبمراقبته والإعراض عما سواه لتنصب إلى قلبه العلوم اللدنية التي لو عاش ألف سنة في تدريس الاصطلاحات وتصنيفها لا يشم منها رائحة ولا يشاهد من آثارها وأنوارها لمعة فالعلم بلا عمل عقيم والعمل بلا علم سقيم والعمل بالعلم صراط مستقيم.
قال في "المثنوي" :
آنكه بي همت ه باهمت شده
وآنكه باهمت ه با نعمت شده
جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩
وفي "التأويلات النجمية" ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أي : لأهل الغفلة والنسيان ﴿ءَامِنُوا كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ﴾ أي : بعض الناسين منكم الذين تفكروا في آلاء الله تعالى وتدبروا آياته بعد نسيان عهد ألست بربكم ومعاهدة الله تعالى على التوحيد والعبودية فتذكروا تلك العهود والمواثيق فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبما جاء به ﴿قَالُوا﴾ أي : أهل الشقاوة منهم ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ﴾ فكذلك أحوال أصحاب الغفلات مدعي الإسلام إذا دعوا عن الإيمان التقليدي الذي وجدوه بالميراث إلى الإيمان الحقيقي المكتسب بصدق الطلب وترك محبة الدنيا واتباع الهوى والرجوع إلى الخلق والتمادي في الباطل ينسبون أرباب القلوب وأصحاب الكرامات العالية إلى السفه والجنون وينظرون إليهم بنظر العجز والذلة والقلة والمسكنة ويقولون أنترك الدنيا كما ترك هؤلاء السفهاء من الفقراء لنكون محتاجين إلى الخلق كما هم محتاجون ولا يعلمون أنهم هم السفهاء لقوله تعالى :﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ﴾ فهم السفهاء بمعنيين أحدهما : أنهم يبيعون الدين بالدنيا والباقي بالفاني لسفاهتهم وعدم رشدهم والثاني : أنهم سفهوا أنفسهم ولم يعرفوا حسن استعدادهم للدرجات العلى والقربة والزلفى فرضوا بالحياة الدنيا ورغبوا عن مراتب أهل التقى ومشارب أهل النهي كما قال الله تعالى :﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ (البقرة : ١٣٠) فإنه من عرف نفسه فقد عرف ربه ومن عرف ربه ترك غيره وعرف أهل الله وخاصته فلا يرغب عنهم ولا ينسبهم إلى السفه وينظر إليهم بالعزة فإن الفقراء الكبراء هم الملوك تحت الأطمار ووجوههم المصفرة عند الله كالشموس والأقمار ولكن تحت قباب العزة مستورون وعن نظر الأغيار محجوبون.
قال في "المثنوي" :
مهر ا كان درميان جان نشان
دل مده الا بمهر دلخوشانكرتوسنك صخره ومرمر شوى
ون بصاحب دل رسى جوهر شوى
إنهم تحت قبابي كامنون
جزكه يزدانشان نداند زآزمون


الصفحة التالية
Icon