جزء : ١ رقم الصفحة : ٥٩
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ (البقرة : ١٤) بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار وما صُدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير أي : هؤلاء المنافقون إذا عاينوا وصادفوا
٦١
واستقبلوا الذين آمنوا بالحق وهم المهاجرون والأنصار ﴿قَالُوا﴾ كذباً ﴿مَن﴾ كإيمانكم وتصديقكم روي أن عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة رضي الله عنهم فقال ابن أبيّ : انظروا كيف أرد هذه السفهاء عنكم فلما دنوا منهم أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال : مرحباً بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال مرحباً بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال مرحباً بابن عم رسول الله وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له علي رضي الله عنه : يا عبد الله اتق الله ولا تنافق فإن المنافقين شر خلق الله فقال له : مهلاً يا أبا الحسن أنى تقول هذا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن أبيّ لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا ما فعلت فأثنوا عليه خيراً وقالوا : ما نزال بخير ما عشت فينا فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخبروه بذلك فنزلت الآية :﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ أي : مضوا أو اجتمعوا على الخلوة وإلى بمعنى مع أو انفردوا، وإلى بمعنى الباء أو مع تقول خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ﴿إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أصحابهم المماثلين للشيطان في التمرد والعناد المظهرين لكفرهم وإضافتهم إليه للمشاركة في الكفر أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم وكل عاتتٍ متمرد فهو شيطان.
وقال الضحاك المراد بشياطينهم كهنتهم وهم في بني قريظة كعب بن الأشرف وفي بني أسلم أبو بردة وفي جهينة عبد الدار وفي بني أسد عوف بن عامر وفي الشام عبد الله بن سوداء وكانت العرب تعتقد فيهم أنهم مطلعون على الغيب ويعرفون الأسرار ويداوون المرضى وليس من كاهن إلا وعند العرب معه شيطاناً يلقي إليه كهانته وسموا شياطين لبعدهم عن الحق فإن الشطون هو البعد كذا في "التيسير" ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم واعتقادكم لا نفارقكم في حال من الأحوال وكأنه قيل لهم عند قوله :﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ فما بالكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الشهادة وتشهدون مشاهدهم وتدخلون مساجدهم وتحجون وتغزون معهم فقالوا :﴿إِنَّمَا نَحْنُ﴾ أي : في إظهار الإيمان عند المؤمنين ﴿مُسْتَهْزِءُونَ﴾ بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة فنريهم أنا نوافقهم على دينهم ظاهراً وباطناً وإنما نكون معهم ظاهراً لنشاركهم في غنائمهم وننكح بناتهم ونطلع على أسرارهم ونحفظ أموالنا وأولادنا ونساءنا من أيديهم والاستهزاء التجهيل والسخرية والاستخفاف والمعنى أنا نجهل محمداً وأصحابه ونسخر بهم بإظهارنا الإسلام فرد الله عليهم بقوله :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦١
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي : يجازيهم على استهزائهم أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه أو يعاملهم معاملة المستهزىء بهم إما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان وإما في الآخرة فما يروى أنه يفتح لهم باب إلى الجنة وهم في جهنم فيسرعون نحوه فإذا وصلوا إليه سد عليهم الباب
٦٢
وردوا إلى جهنم والمؤمنون على الأرائك في الجنة ينظرون إليهم فيضحكون منهم كما ضحكوا من المؤمنين في الدنيا فذلك بمقابلة هذا ويفعل بهم ذلك مرة بعد مرة ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ أي : يزيدهم ويقويهم من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وقواه لا من المد في العمر فإنه يعدي باللام كأملى لهم ويدل عليه قراءة ابن كثير ويمدهم ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ متعلق بيمدهم والطغيان مجاوزة الحد في كل أمر والمراد إفراطهم في العتو وغلوهم في الكفر وفي إضافته إليهم إيذان باختصاصه بهم وتأييد لما أشير إليه من ترتب المد على سوء اختيارهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ أي : يترددون في الضلالة متحيرين عقوبة لهم في الدنيا لاستهزائهم وهو حال من الضمير المنصوب والمجرور لكون المضاف مصدراً فهو مرفوع حكماً.
والعمه في البصيرة كالعمي في البصر وهو التحير والتردد بحيث لا يدري أين يتوجه


الصفحة التالية
Icon