وفي الآيتين إشارات :
الأولى : في قوله تعالى :﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ وهي أنّ من رام أن يجمع بين طريق الإرادة وما عليه أهل العادة لا يلتئم له ذلك والضدان لا يجتمعان ومن كان له من كل ناحية خليط ومن كل زاوية من قلبه ربيط كان نهباً للطوارق ومنقسماً بين العلائق فهذا حال المنافق يذبذب بين ذلك وذلك يعني أن المنافقين لما أرادوا أن يجمعوا بين غبرة الكفار وصحبة المسلمين وأن يجمعوا بين مفاسد الكفر ومصالح الإيمان وكان الجمع بين الضدين غير جائز فبقوا بين الباب والدار كقوله تعالى :﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَالِكَ لا إِلَى هَاؤُلاءِ وَلا إِلَاى هَاؤُلاءِ﴾ (النساء : ١٤٣) وكذلك حال المتمنين الذين يدعون الإرادة ولا يخرجون عن العادة ويريدون الجمع بين مقاصد الدارين يتمنون أعلى مراتب الدين ويرتعون في أسفل مراتع الدنيا فلا يلتئم لهم ذلك قال عليه السلام :"ليس الدين بالتمني" وقال :"بعثت لرفع العادات ودفع الشهوات" وقال :"الدنيا والآخرة ضرتان فمن يدععِ الجمع بينهما فممكور ومغرور" فمن رام مع متابعة الهوى البلوغ إلى الدرجات العلى فهو كالمستهزىء بطريق هذا الفريق فكم في هذا البحر من أمثاله غريق فالله تعالى يمهلهم في طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوزوا في طلبها حد الاحتياج إليها ويفتح أبواب المقاصد الدنيوية عليهم ليستغنوا بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانهم كما قال الله تعالى :﴿إِنَّ الانسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق : ٦ ـ ٧) فكان جزاء سيئة تلونهم في الطلب الاستهزاء وجزاء سيئة الاستهزاء الخذلان والإمهال إلى أن طغوا وجزاء سيئة الطغيان العمه فيترددون في الضلال متحيرين لا سبيل لهم إلى الخروج من الباطل والرجوع إلى الحق.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢
والإشارة الثانية في قوله تعالى :﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ وهي أن ذلك يدل على شرف المؤمنين ومنزلتهم عند الله حيث أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله فناب الله عنهم واستهزأ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء حيث ينزل بهم من النكال ويحل عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف به.
ودلت الآية على قبح الاستهزاء بالناس وقد قال :﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ﴾ (الحجرات : ١١) وقال في قصة موسى عليه السلام :﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (البقرة : ٦٧) فأخبر أنه فعل الجاهلين وإذا كان الاستهزاء بالناس قبيحاً فما جزاء الاستهزاء بالله وهو فيما قال النبي صلى الله عليه وسلّم "المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزىء بربه".
والإشارة الثالثة في قوله تعالى :
٦٣
﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ وهي أن العبد ينبغي له أن لا يغتر بطول العمر وامتداده ولا بكثرة أمواله وأولاده والله تعالى يقول في أعدائه في حق المعمر ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ (البقرة : ١٥) وفي حق المال والبنين ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ (المؤمنون : ٥٥) وكان طول العمر لهم خذلاناً وكثرة الأموال والأولاد لهم حرماناً ولهم في مقابلة هذا المد مد قال الله تعالى :﴿وَنَمُدُّ لَه مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ (مريم : ٧٩) وقد جعل الله لعدوه في الدنيا مالاً ممدوداً ولوليه في الآخرة ظلاً ممدوداً وقال الله جل جلاله لمحمد صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج :(إن من نعمتي على أمتك أني قصرت أعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم وأقللت أموالهم كيلا يشتد في القيامة حسابهم وأخرت زمانهم كيلا يطول في القبور حبسهم) وروي أن الله تعالى قال لحبيبه ليلة المعراج :(يا أحمد لا تتزين بلين اللباس وطيب الطعام ولين الوطاء فإن النفس مأوى كل شر وهي رفيق سوء كلما تجرها إلى طاعة تجرك إلى معصية وتخالفك في الطاعة وتطيع لك في المعصية وتطغى إذا شبعت وتتكبر إذا استغنت وتنسى إذا ذكرت وتغفل إذا آمنت وهي قرينة للشيطان) كذا في "مشكاة الأنوار".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢


الصفحة التالية
Icon