﴿أُولَئِكَ﴾ المنافقون المتصفون بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز بحيث صاروا كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله :﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أصل الاشتراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأشياء ثم استعير للإعراض عما في يده محصلاً به غيره ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره وهو ههنا عبارة عن معاملتهم السابقة المحكية واشتروا الضلالة وهي الكفر والعدول عن الحق والصواب بالهدى وهو الإيمان والسلوك في الطريق المستقيم والاستقامة عليه مستعار لأخذها بدلاً منه أخذاً متصفاً بالرغبة فيها والإعراض عنه أي : اختاروها عليه واستبدلوها به وأخذوها مكانه وجعل الهدى كأنه في أيديهم لتمكنهم منه وهو الاستعداد به فبميلهم إلى الضلالة عطلوه وتركوه.
والباء تصحب المتروك في باب المعارضة وهذا دليل على أن الحكم يثبت بالتعاطي من غير تكلم بالإيجاب والقبول فإن هؤلاء سموا مشترين بترك الهدى وأخذ الضلال من غير التكلم بهذه المبادلة كما في "التيسير".
﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ﴾ ترشيح للمجاز أي : ما ربحوا فيها فإن الربح مسند إلى أرباب التجارة في الحقيقة فإسناده إلى التجارة نفسها على الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث أنها سبب الربح والخسران ودخلت الفاء لتضمن الكلام معنى الشرط تقديره وإذا اشتروا فما ربحوا كما في "الكواشي" والتجارة صناعة التجار وهو التصدي بالبيع والشراء لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال.
﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ أي : إلى طريق التجارة فإن المقصد منها سلامة رأس المال مع حصول الربح ولئن فات الربح في صفقة فربما يتدارك في صفقة أخرى لبقاء الأصل وأما إتلاف الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعاً وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين الأصل نائين عن طريق التجارة بألف منزل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢
واعلم أن المهتدي
٦٤
هو الذي ترك الدنيا والعادة ثم اشتغل بوظائف الطاعة والعبادة لا من اتبع كل ما يهواه وخلط هواه بهداه.
حكي أنه كان للشيخ الأستاذ أبي علي الدقاق رضي الله عنه مريد تاجر متمول فمرض يوماً فعاده الشيخ وسأل منه سبب علته فقال التاجر : قمت هذه الليلة لمصلحة التهجد فلما أردت الوضوء بدا لي من ظهري حرارة فاشتد أمري حتى صرت محموماً فقال الشيخ : لا تفعل فعلاً فضولياً ولا ينفعك التهجد ما دمت لم تهجر دنياك وتخرج محبتها من قلبك فاللائق لك أولاً هو ذا ثم الاشتغال بوظائف النوافل فمن كان به أذى من رأسه من صداع لا يسكن ألمه بالطلاء على الرجل ومن تنجست يده لا يجد الطهارة بغسل ذيله وكمه.
قال بعض المشايخ : من علامة اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بحقوق الواجبات وهذا غالب في الخلق إلا من عصمه الله ترى الواحد منهم يقوم بالأوراد الكثيرة والنوافل العديدة الثقيلة ولا يقوم بفرض واحد على وجهه.
فعلى العاقل تحصيل رأس المال ثم تحصيل الربح المترتب عليه وذلك بالاختيار لا بالاضطرار وقد أوجب الله على العباد وجود طاعته لما علم من قلة نهوضهم إلى معاملته إذ ليس لهم ما يردهم إليه بلا علة وهذا حال أكثر الخلق بخلاف أهل المروءة والصفا.
قال في "المثنوي" :
اختيار آمد عبادت رانمك
ورنه ميكردد بنا خواه اين فلك
كردش اورا نه اجر ونه عقاب
كاختيار آمد هنر وقت حسابائتيا كرها مهار عاقلان
ائتيا طوعاً مهار بيدلاناين محب دايه ليك از بهر شير
وإن دكر دل داده بهر آن ستير
فأوجب الله عليك وجود طاعته وما أوجب عليك بالحقيقة إلا دخول جنته إذ الأمر آيل إليها والأسباب عدمية فإن تعللت النفس عن التشمير بما هي عليه من الاستغراق في كل دني وحقير فاعلم أن من استغرب أن ينقذه الله من شهوته التي اعتقلته عن الخيرات وأن يخرجه من وجود غفلته التي شملته في جميع الحالات فقد استعجز القدرة الإلهية وقد قال الله تعالى :﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا﴾ (الكهف : ٤٥) فأبان سبحانه أن قدرته شاملة صالحة لكل شيء وهذا من الأشياء وإن أردت الاستعانة على تقوية رجائك في ذلك فانظر لحال من كان مثلك ثم أنقذه الله وخصه بعنايته كإبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض وابن المبارك وذي النون المصري ومالك بن دينار وغيرهم من مجرى البداية كذا في "شرح الحكم العطائية".
قال الحافظ قدس سره :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢
عاشق كه شدكه يار بحالش نظر نكرد
أي خواجه درد نيست وكرنه طبيب هست


الصفحة التالية
Icon