قال القاشاني : في تأويل الآية الهدى النور الثاني في قوله تعالى :﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾ (النور : ٣٥) وهو النور الفطري الأزلي المراد من قول المحققين هو الاستعداد من فيضه الأقدس والضلالة ظلمة النشأة الحاجية له بسلوك طريق المطالب الطبيعية الفاسدة والمقاصد الهيولانية الفاسقة بهوى النفس وتتبع خطوات الشيطان والربح هو النور الأول المقدس الكمالي المكتسب بالتوجه إلى الحق والاتصال بعالم القدس والانقطاع والتبتل إلى الله من الغير والتبري بحوله وقوته من كل حول وقوة حتى يخلص روح المشاهدة من أعباء المكابدة بطلوع الوجه الباقي وإحراق سبحاته كل
٦٥
ما في بقعة الإمكان من الرسم الفاني وخسرانهم بإضاعة الأمرين هو الحجاب الكلي عن الحق بالرين كما قال تعالى :﴿كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين : ١٤ ـ ١٥).
وفي "التأويلات النجمية" الإشارة في الآية أن من نتيجة طغيانهم وعمههم أن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وأشربوا في قلوبهم الضلالة وتمكنت فكانت هذه الحال من نتيجة معاملتهم فلهذا أضاف الفعل إليهم وقال :﴿أولئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ وإنما قال بلفظ الاشتراء لأنهم أخرجوا استعداد قبول الهداية عن قدرتهم وتصرفهم فلا يملكون الرجوع إليه ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ﴾ لأن خسران من رضي بالدنيا من العقبى ظاهر ومن آثر الدنيا والعقبى على المولى فهو أشد خسراناً وأعظم حرماناً فإذا كان المصاب بفوات النعيم ممتحناً بنار الجحيم فما ظنك بالمصاب بفقد المطلوب وبعد المحبوب ضاعت منه الأوقات وبقي في أسر الشهوات لا إلى قلبه رسول ولا لروحه وصول ولا من الحبيب إليه وفود ولا لسره معه شهود فهذا هو المصاب الحقيقي ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ لإبطالهم حسن استعداد قبول الهداية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٢
﴿مَثَلُهُمْ﴾ المثل في الأصل بمعنى النظير ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده أي : المضروب كما ورد من غير تغيير ولا يضرب إلا بما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن عجيب وفيها غرابة كقوله تعالى :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ (الرعد : ٣٥) وقوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاعْلَى﴾ (النحل : ٦٠) أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال ولما جاء الله بحقيقة حال المنافقين عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير فإن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي وقمع سورة الجامح الأبي كيف لا يلطف وهو إبداء للمنكر في صورة المعروف وإظهار للوحشي في هيئة المألوف وإراءة للخيل محققاً والمعقول محسوساً وتصوير للمعاني بصورة الأشخاص ومن ثمة كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال وفي الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال وفي القرآن ألف آية من الأمثال والعبر وهي في كلام الأنبياء عليهم السلام والعلماء والحكماء كثيرة لا تحصى.
ذكر السيوطي في "الإتقان" : من أعظم علم القرآن أمثاله والناس في غفلة عنه والمعنى حالهم العجيبة الشان ﴿كَمَثَلِ الَّذِى﴾ أي : كحال الذين من باب وضع واحد الموصول موضع الجمع منه تخفيفاً لكونه مستطالاً بصلته كقوله :﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ (التوبة : ٦٩) والقرينة ما قبله وما بعده خلا أنه وحد الضمير في قوله تعالى :﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ نظراً إلى الصورة وجمع في الأفعال الآتية نظراً إلى المعنى.
والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦
والنار جوهر لطيف مضيء محرق حار والنور ضوءها وضوء كل نير وهو نقيض الظلمة أي : أوقد في مفازة في ليلة مظلمة ناراً عظيمة خوفاً من السباع وغيرها ﴿فَلَمَّآ أَضَآءَتْ﴾ الإضاءة فرط الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ (يونس : ٥) أي : أنارت النار ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ أي : ما حول المستوقد من الأماكن والأشياء على أن ما مفعول أضاءت إن جعلته متعدياً وحول نصب على الظرفية وإن جعلته لازماً فهو مسند إلى ما والتأنيث لأن ما حوله أشياء
٦٦


الصفحة التالية
Icon