وأماكن وأصل الحول الدوران ومنه الحول للعام لأنه يدور وجوابُ لَمَّا قولُه تعالى :﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ أي : أذهبه بالكلية وأطفأ نارهم التي هي مدار نورهم وإنما علق الإذهاب بالنور دون نفس النار لأنه المقصود بالاستيقاد وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بخلقه تعالى وإما لأن الإنطفاء حصل بسبب خفي أو أمر سماوي كريح أو مطر وإما للمبالغة كما يؤذن به تعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والإمساك يقال ذهب السلطان بماله إذا أخذه وما أخذه الله تعالى فأمسكه فلا مرسل له من بعده ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر إلى النور لأن ذهاب الضوء قد يجامع بقاء النور في الجملة لعدم استلزام عدم القوى لعدم الضعيف والمراد إزالته بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى :﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ فإن الظلمة هي عدم النور وانطماسه بالمرة لا سيما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكباً بعضها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمي وما بعده من قوله :﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ لا يتحقق إلا بعد أن لا يبقى من النور عين ولا أثر وترك في الأصل بمعنى طرح وخلي وله مفعول واحد فضمن معنى التصيير فجرى مجرى أفعال القلوب أي : صيرهم ﴿فِي ظُلُمَـاتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ ما حولهم فعلى هذا يكون قوله :﴿فِي ظُلُمَـاتٍ﴾ وقوله :﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ مفعولين لصير بعد المفعول الأول على سنن الأخبار المتتابعة للمخبر عنه الواحد وإن حمل معناه على الأصل يكونان حالين من المفعول مترادفين أو متداخلين والمعنى أن حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالة التي هي عبارة عن ظلمتي الكفر والنفاق المستتبعين لظلمة سخط الله تعالى وظلمة يوم القيامة ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم﴾ (الحديد : ١٢) وظلمة العقاب السرمدي بالهدى الذي هو الفطري النوري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق كحال من استوقد ناراً عظيمة حتى كاد ينتفع بها فأطفأها الله تعالى وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦
وفي "التيسير" و"العيون" أن المنافقين أظهروا كلمة الإيمان فاستتاروا بنورها واستعزوا بعزها وآمنوا بسببها فناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمنوا على أموالهم وأولادهم فإذا بلغوا إلى آخر العمر كل لسانهم عنها وبقوا في ظلمة كفرهم أبداً لا بد وعادوا إلى الخوف والظلمة.
﴿صُمُّ﴾ أي : هم صم عن الحق لا يقبلونه وإذا لم يقبلوا فكأنهم لم يسمعوا والصم انسداد خروق المسامع بحيث لا يكاد يصل إليها هواء يحصل الصوت بتموجه ﴿بِكُمُ﴾ خرس عن الحق لا يقولونه لما أبطنوا خلاف ما أظهروا فكأنهم لم ينطقوا وهو آفة في اللسان لا يتمكن بها أن يعتمد مواضع الحروف ﴿عُمْىٌ﴾ أي : فاقدو الأبصار عن النظر الموصل إلى العبرة التي تؤديهم إلى الهدى وفاقدو البصيرة أيضاً لأن من لا بصيرة له كمن لا بصر له فالعمي مستعمل ههنا في عدم البصر والبصيرة جمعياً وهذه صفاتهم في الدنيا ولذلك عوقبوا في الآخرة بجنسها.
قال تعالى :﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ (الإسراء : ٩٧) فلا يسمعون سلام الله ولا يخاطبون الله ولا يرونه والمسلمون كانوا سامعين للحق قائلين بالحق ناظرين إلى الحق فيكرمون يوم القيامة بخطابه ولقائه وسلامه.
﴿فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ أي : هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي تركوه والآية
٦٧
فذلكة التمثيل ونتيجته وأفادت أنهم كانوا يستطيعون الرجوع باستطاعة سلامة الآلات حيث استحقوا الذم بتركه وأن قوله تعالى :﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ﴾ ليس بنفي الآلات بل هو نفي تركهم استعمالها، قال السعدي قدس سره :
زبان آمد ازبهر شكر وساس
بغيبت نكرداندش حق شناس
كذركاه قرآن وندست كوش
به بهتان باطل شنيدن مكوش
دوشم از ي صنع باري نكوست
زعيب بردار فرو كبر ودوست
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦


الصفحة التالية
Icon