ثم إن الله تعالى ندب الخلق إلى الرجوع بالائتمار بأمره والانتهاء بنهيه بقوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الأعراف : ١٧٤) فمن لم يرجع إليه اختياراً رجعوا إليه بالموت والبعث كما قال تعالى :﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِا ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (العنكبوت : ٥٧) ومن رجع إليه في الدنيا بفعله وحقق ذلك بقوله :﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة : ١٥٦) كان رجوعه إليه بالكرامة ويخاطب بقوله :﴿يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ (الفجر : ٢٧ ـ ٢٨) ـ حكي ـ أن جباراً عاتياً في الزمن الأول بنى قصراً وشيده وزخرفه ثم آلى بيمينه أن لا يدنو من قصره هذا أحد فمن وقع بصره عليه قتله فكان يفعل ذلك ويقتل حتى جاءه رجل من أهل قريته فوعظه في ذلك فلم يلتفت إلى تحذيره ولم يعبأ بقوله فخرج ذلك الرجل الصالح من قريته وبنى كوخاً وهو بيت من قصب بلا كوة وجعل يعبد الله فيه فبينما هذا الجبار في قصره وأصحابه قيام بين يديه إذ تمثل له ملك الموت على صورة رجل شاب حسن الهيئة فجعل يطوف حول هذا القصر ويرفع رأسه إليه فقال بعض ندمائه أيها الملك إنا نرى رجلاً يطوف حول القصر وينظر إليه فتعالى الملك على منظر له فأبصره فقال : هذا مجنون أو غريب عابر سبيل ولكن انزل إليه فأرحه من نفسه فنزل إليه الرجل فلما أراد أن يرفع إليه السيف قبض روحه فخر ميتاً فقيل للملك : إن هذا قد قتل صاحبك فقال للآخر : انزل إليه فاقتله فلما نزل وأراد أن يقتله قبض روحه فخر ميتاً فرفع ذلك إلى الملك فامتلأ غضباً وأخذ السيف ونزل إليه بنفسه فقال : من أنت؟ أما رضيت أن دنوت من قصري حتى قتلت رجلين من أصحابي؟ فقال : أوما تعرفني؟ أنا ملك الموت فارتعد الملك من هيبته حتى سقط السيف من يده قال : فعرفتك الآن وأراد أن ينصرف فقال له ملك الموت : إلى أين؟ إني أمرت بقبض روحك فقال : حتى أوصي أهلي وأودعهم فقال له : لِمَ لَمْ تفعل في طول عمرك قبل هذا؟ فقبض روحه فخر الملك ميتاً ثم جاء ملك الموت إلى ذلك الرجل الصالح في كوخه فقال له : أيها الرجل الصالح أبشر فإني ملك الموت وقد قبضت روح الملك الجبار فاعلم ذلك وأراد أن يرجع فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت أن اقبض روح الرجل الصالح فقال له ملك الموت : إني أمرت بقبض روحك قال : فهل لك يا ملك الموت أن أدخل القرية فأحدث بأهلي عهداً وأودعهم؟ فأوحي الله تعالى إليه أن أمهله يا ملك الموت فقال : إن شئت فرفع الرجل الصالح قدميه ليدخل القرية فتفكر ثم ندم فقال : يا ملك الموت إني أخاف إن رأيت أهلي أن يتغير قلبي فاقبض روحي فالله تعالى خير لهم مني فقبض روحه على المكان.
قال بعض العارفين : والعجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه وهو
٦٨
مولاه الذي منّ عليه بكل خير وأولاه ويطلب ما لا بقاء له معه وهو ما يوافق النفس من شهوته وهواه وآخرته ودنياه فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦
وأسباب عمي البصيرة ثلاثة : إرساله الجوارح في معاصي الله، والتصنع بطاعة الله، والطمع في خلق الله، فعند عماها يتوجه العبد للخلق ويعرض عن الحق.


الصفحة التالية
Icon