وفي "التأويلات النجمية" : الإشارة في تحقيق الآيتين أن مثل المريد الذي له بداية جميلة يسلك طريق الإرادة مدة ويتعنى بمقاساة شدائد الصحبة برهة حتى تنور بنور الإرادة فاستوقد نار الطلب فأضاءت ما حوله فرأى أسباب السعادة والشقاوة فتمسك بحبل الصحبة فلازم الخدمة والخلوة وعزفت نفسه عن الدنيا وأقبل على قمع الهوى فشرقت له من صفاء القلب شوارق الشوق وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق فأمن مكر الله وانخدع بخداع النفس فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس ثم رجع القهقرى إلى ما كان من حضيض الدنيا فغابت شمسه وأظلمت نفسه وانقطع حبل وصاله قبل وصوله وأخرج من جنة نواله بعد دخوله فبقدمي سأمه وملاله عاد إلى أسوأ حاله كما قال تعالى :﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ (الزمر : ٤٧) ﴿صُمُّ﴾ يعني بآذان قلوبهم التي سمعوا بها خطاب الله تعالى يوم الميثاق ﴿بِكم﴾ بتلك الألسنة التي أجابوا ربهم بها بقولهم بلى ﴿عُمْىٌ﴾ بالأبصار التي شاهدوا بها جمال ربوبيته فعرفوه ﴿فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ إلى منازل حظائر القدس بل إلى ما كانوا فيه من رياض الأنس وذلك لأنهم سدوا روزنة قلوبهم التي كانت مفتوحة إلى عالم الغيب يوم الميثاق يتتبع الشهوات واستيفاء اللذات والخدعة والنفاق فما هبت عليهم من جناب القدس الرياح وما تنسموا نفحات الأرواح فمرضت قلوبهم ثم أرسل إليهم الطبيب الذي أنزل الداء فأنزل معه الدواء كما قال تعالى :﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء : ٨٢) الذين يصدقون الأطباء ويقبلون الدواء فلم يصدقوهم ولم يقبلوا الدواء ظلماً على أنفسهم فصار الدواء داء والشفاء وباء كما قال تعالى :﴿وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا﴾ (الإسراء : ٨٢) فلما لم يكونوا أهل الرحمة أدركتهم اللعنة الموجبة للصمم والعمي لقوله تعالى :﴿أَولَئكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ (محمد : ٢٣).
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٦
﴿أَوْ﴾ مثل المنافقين ﴿كَصَيِّبٍ﴾ أي : كحال أصحاب صيب أي : مطر يصوب أي : ينزل ويقع من الصوب وهو النزول أصله صيوب والكاف مرفوع المحل عطف على الكاف في قوله :﴿كَمَثَلِ الَّذِى﴾ وأو للتخيير والتساوي أي : كيفية قصة المنافقين شبيهة بكيفية هاتين القصتين والقصتان سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك ﴿مِّنَ السَّمَآءِ﴾ متعلق بصيب.
والسماء : سقف الدنيا وتعريفها للإيذان بأن انبعاث الصيب ليس من أفق واحد فإن كل أفق من آفاقها أي : كل ما يحيط به كل أفق منها سماء على حدة، والمعنى أنه صيب عام نازل من غمام مطبق آخذ بآفاق السماء وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر.
قال الإمام : من الناس من قال : المطر إنما يتحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فينعقد هناك من شدة برد الهواء ثم ينزل مرة أخرى وأبطل الله ذلك المذهب هنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن تحت العرش بحراً ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحى إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء
٦٩


الصفحة التالية
Icon